الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العراق ما بعد الرأي الإستشاري بشأن التغير المناخي

بواسطة azzaman

العراق ما بعد الرأي الإستشاري بشأن التغير المناخي

المسؤولية القانونية وفرص الشراكة البيئية مع المملكة المتحدة

ليلى علي إبراهيم السامرائي

 

شكّل الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في الثالث والعشرين من يوليو 2025 منعطفاً بارزاً في تاريخ القانون البيئي الدولي. فعلى الرغم من كونه غير ملزم بالمعنى الإجرائي، إلا أنه يُعد أول وثيقة قانونية مرجعية صادرة عن أعلى سلطة قضائية دولية تؤكد بشكل واضح أن التقاعس عن اتخاذ تدابير فعالة في مواجهة تغير المناخ يُشكّل فعلاً غير مشروع بموجب القانون الدولي. كما يربط الرأي، لأول مرة بهذا الوضوح، بين الالتزامات المناخية للدول وبين الحقوق الأساسية للإنسان، وفي مقدمتها الحق في الحياة، والصحة، والغذاء، والسكن. إنه رأيٌ يُحدث أثرًا تراكميًا في الفقه القانوني الدولي، ويوسّع من دائرة الالتزامات القانونية للدول، ليس فقط بوصفها أطرافًا في اتفاقيات بيئية، بل كأعضاء في المجتمع الدولي تخضع لقواعد عرفية ناشئة حول الحماية المناخية.

تحديات بنيوية

في هذا السياق، يجد العراق نفسه في موقع بالغ الحساسية، إذ يتقاطع موقعه الجغرافي ومخزونه الهش من الموارد البيئية مع التحديات البنيوية في منظومته القانونية والمؤسسية. ويُعد العراق من أكثر الدول تعرضًا لتداعيات التغير المناخي، بدءًا من تراجع معدلات الأمطار، وازدياد التصحر، وارتفاع تأثيرات القبة الحرارية، وتناقص تدفق المياه من دول الجوار، وصولًا إلى تداعيات بيئية واجتماعية متسارعة تهدد الاستقرار المجتمعي والأمن الغذائي والصحي. وعلى الرغم من أن العراق ليس من كبار المساهمين في الانبعاثات العالمية، إلا أن هشاشته المناخية تمنحه موقعًا خاصًا في مناقشات العدالة البيئية العالمية، ويجعله معنياً مباشرة بتفعيل مبادئ اتفاقية باريس للمناخ، ولا سيما مبدأ “المسؤوليات المشتركة، ولكن المتفاوتة”، ومبدأ “عدم إلحاق الضرر العابر للحدود”.

لكن على الرغم من حجم هذه التحديات، فإن الرأي الاستشاري يمنح العراق فرصة لإعادة تموضعه القانوني والمؤسسي، من خلال تعزيز قدراته على مساءلة المتسببين في الضرر البيئي، وتطوير أدواته الوطنية لحماية بيئته ومواطنيه، بل والمطالبة بالتعويض متى ثبت التقصير الدولي أو الإقليمي في احترام التزامات الحماية المناخية.

يُحتّم هذا الواقع على العراق إجراء مراجعة شاملة للتشريعات البيئية المعمول بها، والتي لا تزال تفتقر إلى تضمين مفاهيم حديثة مثل “الضرر المناخي”، و” العدالة البيئية”، و” التحول الأخضر. فالرأي الاستشاري يفتح الباب واسعاً أمام استخدام هذه المفاهيم كأساس لتقاضي المناخ، سواء على المستوى الوطني أمام المحاكم المحلية، أو على المستوى الدولي ضمن أطر التعاون القضائي أو المناصرة الحقوقية. ويتطلب ذلك تحديث القوانين البيئية بما يضمن إدماج المعايير الدولية الحديثة، وإنشاء وحدات قضائية وفنية متخصصة في التوثيق البيئي، وتمكين المجتمع المدني من المساهمة في توثيق الضرر، ورصد مصادر التلوث، والترافع باسم المتضررين، لا سيما من الفئات الأكثر هشاشة.

 هنا تبرز أهمية تفعيل الشراكة العراقية البريطانية في هذا المجال، خصوصاً في ضوء اتفاقية الشراكة والتعاون الموقعة بين البلدين، والتي تؤكد في ديباجتها على دعم العراق في مجالات الحكم الرشيد، والتنمية المستدامة، وبناء القدرات المؤسسية. وتتضمن الاتفاقية بنوداً محددة تشجع على الاستثمار في البرامج والمشاريع البيئية، ودعم بناء القدرات في المجال البيئي، وتعزيز التعاون في مجالات البحث والتحليل المرتبطين بالمناخ والإدارة البيئية. وتشكّل قضية المناخ فرصة حقيقية لترجمة هذه المبادئ إلى برامج تنفيذية مشتركة، لا سيما وأن المملكة المتحدة قد أعلنت بوضوح، في استراتيجياتها التنموية الدولية، التزامها بدعم التحول الأخضر وتعزيز التنمية المستدامة في الدول الشريكة، بما في ذلك دعم قدرات هذه الدول في مواجهة تحديات التغير المناخي عبر أدوات التعاون الفني والمالي.

معايير دولية

يمكن لهذه الشراكة أن تأخذ أشكالًا متعددة، تبدأ بدعم العراق في بناء منظومة تشريعية بيئية تتماشى مع المعايير الدولية، وتطوير بنية تحتية رقمية لرصد الانبعاثات (DMRV)، إلى جانب تمكين العراق من وضع الأسس التشريعية والفنية اللازمة لإنشاء سوق طوعي وشفاف للكربون، يخضع للحوكمة الوطنية ويتوافق مع المعايير الدولية لقياس وتوثيق خفض الانبعاثات.

كما يمكن توسيع نطاق التعاون عبر دعم إنشاء مراكز بحثية ومناصرة قانونية مشتركة تهدف إلى رصد الأضرار المناخية والتوثيق المهني للانتهاكات البيئية، وتتولى مهمة الترافع بالنيابة عن المتضررين أمام المحاكم الوطنية والدولية، سواء من خلال تقديم المذكرات القانونية، أو رفع الدعاوى البيئية، أو المشاركة في إعداد ملفات التقاضي المناخي الاستراتيجي. وتُعد هذه المراكز أداةً فعالة لتمكين المجتمعات المحلية وتعزيز قدرة العراق على إنتاج معرفة قانونية وبيئية موثوقة تُوظف في الدفاع عن الحقوق البيئية، خاصة للفئات الهشة.

تُعد التحديات المناخية التي يواجهها العراق، من شح المياه وتغير أنماط الزراعة إلى تدهور الصحة البيئية، امتدادًا لتعقيداته الجيوسياسية وهشاشته البنيوية. لذلك، فإن الاستجابة المطلوبة يجب أن تكون شاملة، تتجاوز الحلول التقنية إلى شراكات استراتيجية تراعي السياق المحلي وتبني مناعة بيئية واقتصادية مستدامة. وهنا تبرز المملكة المتحدة كشريك واعد، في ضوء التزامها بتعزيز التنمية الخضراء ودعم مرونة الدول الشريكة في مواجهة التغير المناخي.

وفي الختام، يُمثّل رأي محكمة العدل الدولية فرصة قانونية وسياسية لإعادة تموضع العراق في معادلة العدالة المناخية. وإذا ما أُحسن توظيفه ضمن شراكات دولية فعّالة، خاصة مع المملكة المتحدة، يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق نحو سياسة بيئية أكثر عدالة وفاعلية واستدامة.


مشاهدات 72
الكاتب ليلى علي إبراهيم السامرائي
أضيف 2025/08/10 - 3:39 PM
آخر تحديث 2025/08/11 - 6:05 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 234 الشهر 7702 الكلي 11402788
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير