الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في ذكرى قاص الرومانسية العراقية

بواسطة azzaman

في ذكرى قاص الرومانسية العراقية

 فيصل عبد الحسن

 

  كنت انتظر التعرف عليه بشوق يغلب عليه الشعور بالمنافسة، فقد كنت وسيماً في شبابي، وقاصاً مثله امتلك ناصية لغة الكتابة عن العشق، ووقتها لم يمض على ظهور روايتي القصيرة” فردوس مغلق”في مجلة الطليعة الأدبية العراقية سوى أيام قليلة، وقد وصفها النقاد والقراء وقتها بأنها أفضل رواية عراقية قصيرة كتبت عن الحب، وتفكيك الصراع بين الحسي والمثالي في العلاقة بين المرأة والرجل

  كان الشوق يأخذني كل مأخذ للتعرف على مؤلف قصص فاتن النساء الوسيم الذي نجده في معظم قصصه الرومانسية. أنه كاتب القصة المعروف عبد الستار ناصر، والذي زاد من شوقي لمعرفة هذا الكاتب العراقي قصته القصيرة “سيدنا الخليفة” التي نشرت في مجلة الموقف الأدبي السورية في السبعينات، وتم اعتقاله بسببها من قبل السلطات العراقية الأمنية، ليقبع شهورا في سجون المخابرات العراقية، وقد اتهم بخليفته في قصته أنه يغمز نظام الحكم ورئيسه في العراق في ذلك الوقت مما خلق له كاريزما خاصة لدى الكتاب العراقيين والقراء .

    هذا الاعتقال العشوائي، وهذا العشق لبنات حواء، وهذه رسائل الحب التي كان يكتبها وينشرها في الجرائد، ويجمعها بعد ذلك في مجموعات قصصية كانت تكتب نبذاً منها زميلاتي في كلية الهندسة على شراشف وسادات نومهن بتطريزها بحروف من حرير، كما أخبرتني أحداهن وكانت مدللة أهلها، وكانت تحفظ عن ظهر قلب مقاطع كاملة من رسائله، وحين حكيت له عن هذه المدللة الرقيقة طالبة كلية الهندسة، عند تعرفي عليه سنة 1978 في مطعم قريب من سينما الكرنك وسط البصرة، وقد جاء لزيارة البصرة قادما من بغداد ضحك ولمعت عيناه بنظرة لا أنساها كحفظ الجميل لفتاة لا يعرفها.

  يومها اتصل بي الشاعر البصري حسين عبداللطيف الذي كان صديقه منذ سنوات، ويعرف مدى رغبتي للتعرف على هذا النجم العراقي المتألق، فلم يكن أمامي سوى أن أرتدي أفضل بزة بيضاء لدي، وأجمل ربطة عنق، كأنني ذاهب إلى حفلة عرس، وطلبت غسل سيارتي اللادا موديل 1977 وتلميعها لاستقبال هذا الزائر المهم القادم من جنات الجميلات بغداد الحلم، لأقول له بمظهري الجذاب، أنظر يوجد في البصرة الفيحاء من يفوقك وسامة وأناقة وإبداعاً، واصطحبت صديقي الشاعر حسين عبداللطيف ليعرفني عليه، وذهبنا إلى نجم القصة العراقي، والتقينا به في المكان الذي حددناه له .   كان طويلا بمهابة، بشوشا بلطف، وضاحكا للهواء بسبب ومن دون سبب، وحكاء لا يترك فرصة من دون أن يحكي لك حكاية حب عما عاشه في الطاطران “ عرفت بعد ذلك أنها محلة في بغداد ولد فيها القاص عبدالستار ناصر”وحكى لنا حكايات عشقه في المدن الأوربية التي زارها كسائح.   كان هذا الشاب الوسيم والقاص البارع، الذي أثار الجدل طويلا بيني وبين قصاصين آخرين في البصرة حول أهمية ما كتبه، ونشره من قصص وروايات، فهو قاص ستيني بدأ مشواره في الستينات، وكان هذا الجيل مقلداً لغيره، مهتما بشكل القصة من دون اهتمام عميق بمضمونها، وكان السبب بالاهتمام الشكلي بشكل القصة، يعود إلى ما واجهه القصاصون والكتاب العراقيون من ضغوط أمنية وتحولات سياسية أثرت كثيرا فيما يكتبه الكاتب لينال أكبر قدر من الترحيب في الوسط الأدبي، كقاص حداثي وكذلك ليتفادى الرقيب السلطوي وٱذى الحكومات المتسلطة التي يسيطر عليها العسكر.   جيلنا التالي لجيله كان جيل السبعينات الذي أعاد أساليب كتابة القصة العراقية إلى تطورها الطبيعي، متمماً ما كتبه جيل الخمسينات، وما سمي وقتها بـ” كتابة القصة الواقعية النقدية».

     جمعنا بصديقنا المحتفى به مطعم وسط مدينة البصرة فحكى لنا عن مشاريعه القصصية، وما أعد من مخطوطات روائية، وفي غفلة من صديقنا المشترك الشاعر حسين عبد اللطيف سألني عن رأيي بقصص محمد خضير، وكان محمد خضير من رواد المقهى التي كنت أجلس فيها كل مساء، وكان أكبر سنا وتجربة مني، ويجلس في العادة في ركن منزو من المقهى، وحيدا كئيبا لا يجامل أحداً ولا يحب التعرف على أحد، فكنت احترم خصوصيته، فلا اقترب منه، فأخبرت ناصر ضاحكا كلما رأيته يجلس هناك أتذكر  كيف اختار نهاية قصته الصرخة بذلك الحيوان  العجيب الذي يصرخ في نهاية الحكاية التي نشرتها له مجلة الآداب البيروتية سنة 1967، فتبدو لي قصصه غير مفهومة، وتخلط بين التشكيل كفن والحكي التراثي، وربما قراءاته المبكرة لبورخس أثرت كثيرا عليه، خصوصاً في كتابته لمجموعته القصصية الوحيدة التي ظهرت وقرأناها في ذلك الوقت واعني”المملكة السوداء” التي كنت اقرأ بعض سطور إحدى قصصها عندما يجافيني النوم لكي أنام، وكأنما لطمت على وجهي لطمة قوية بسطرين أو ثلاثة سطور كانت كافية علي َّعلى أكثر احتمال لانتقل إلى العالم الآخر كأقوى حبة منوم، فضحك عبدالستار ناصر حتى كاد أن يسقط من كرسيه.    واكتفى بالقول بعد أن هدأ ضحكه” فعلا أن قصص محمد خضير متعبة، وهو قاص مبدع” أخبرته أني لا أظن ذلك هو حكاء تراثي ماهر، وقد أكد رأيي المبكر به ما كتبه بعدئذ من كتب كلها تقول أنه حكاء تراثي، والقصة القصيرة اسم معاصر لما يكتبه من نثر، وفي رأيي المتواضع محاولاته لا تطابق الثنائية المطلوبة في القصة القصيرة كشكل ومضمون، وبالطبع لا يمكن جلبهما من قصاصين غربيين وألباسهما اللباس العراقي.   سيكون ذلك كاريكتريا مضحكا، وهنا ضحك أيضا عبد الستار، وتدخل الشاعر حسين عبد اللطيف بمعلومة أذكرها لأول مرة إذ قال: أن معظم قصص “المملكة السوداء” عرضها محمد خضير عليَّه، واختار  لها عبداللطيف أسماء قصصها، “فالمجموعة هي جهد جماعي، فيما يبدو وليس جهد خاص لكاتبها».   وبعد أن أكملنا طعامنا في ذلك المطعم البصري، انتقلنا إلى سيارتي لنأخذه بجولة في مدينة البصرة متجاوزين حديقة الأمة وشارع كورنيش البصرة وحدائق السراجي الغناء، أنظره الان في خيالي بعد أن رحل إلى عالم البقاء ذلك الشاب الوسيم بشعره الطويل المنسدل على كتفيه وكان طيلة الوقت مبهورا بجمال البصرة، ونخيلها ونسائها اللاتي نراهن خطفا من خلف زجاج النوافذ، وسمعته يقول لي هامسا وكأنه يقول ذلك الان” عذرا الحياة حلوة في البصرة وحين تأتيا إلى بغداد لن أستطيع أن استقبلكما بكل هذا الكرم كما فعلتما معي، فحياتنا في العاصمة غير حياتكما هنا، فقلت له كما قال سيدنا يوسف لأخوته المعتذرين له: لا تثريب عليك يا صديقنا العزيز

    يرحم الله صديقنا الرائع الوسيم الذي تبوأ عرش القصة الرومانسية في العراق، الذي وافاه الأجل في هكذا شهر  5/8/ 2013 في مستقره الأخير كندا في ذكراه الثانية عشرة.

   □ كاتب مقيم في المغرب

 

 


مشاهدات 73
الكاتب فيصل عبد الحسن
أضيف 2025/08/10 - 3:53 PM
آخر تحديث 2025/08/11 - 2:03 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 80 الشهر 7548 الكلي 11402634
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير