الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رسالة إلى ساعي البريد (من طفل سوداني لا يملك عنوانًا… إلى مجهول لا يرد )

بواسطة azzaman

رسالة إلى ساعي البريد (من طفل سوداني لا يملك عنوانًا… إلى مجهول لا يرد )

 عمرو أبوالعطا

 

يا ساعي البريد،

أعرف أنك لا تطرق أبواب الخيام، ولا توزع الرسائل على الأطفال في المخيمات، لكنني أكتب إليك .. أكتب لأنني سمعت مرة أنكم يا سعاة البريد، توصلون الرسائل إلى الأماكن المستحيلة ، وأملي أن تكون هذه واحدة من تلك الرسائل… رسالة من طفل فقد كل شيء، ويطلب أن توصلها إلى مجهول لا يعرفه، ولا يعرف إن كان سيقرأ.

أكتب لك من خيمةٍ بلا عنوان، على أرضٍ غريبة، في بلد لا يعرفني ، يقولون إنني "لاجئ"، وإنني هنا مؤقتًا… كتبت هذه الرسالة في شهرين، بينما تدمرت بلادي في أقل من ذلك ، كتبتها على ورق أخذته من مدرسة مهجورة، وفي كل ليلة أضيف إليها كلمة، وأبكي.

اسمي سيف الدين .. عمري اثنا عشر عامًا، وكنت أعيش في الخرطوم ، كان عندنا بيت صغير، تحيط به شجرة كبيرة ، وشارع يلعب فيه الأطفال الكرة، وأنا من بينهم ، كنت أحلم أن أصبح طبيبًا ، بل كي أُعالج أمي حين تتعب، وأضع السماعة على صدر أبي وأسمع قلبه يقول لي: "الحمد لله يا ولدي".

لكن كل ذلك صار قصة من الماضي…

فجأة، لم يعد هناك شارع، ولا شجرة، ولا بيت.

جاءت الحرب، وابتلعت كل شيء.

دخلت "أفراد مسلحة " إلى حيّنا ، لم أكن أعرف من هم، لكن وجوههم لم تكن تحمل الرحمة ، أخذوا طعامنا، كسروا الأبواب، ضربوا أبي حين حاول أن يوقفهم، وصفعوا أمي حتى سقطت على الأرض ، أخي الصغير "حامد" خرج يركض خائفًا… فأصابه رصاص صامت. حملناه بيدينا، ولم أعد أناديه بعدها.

هربنا من الخرطوم…

في الطريق، كانت الأقدام تنزف، والنساء يبكين، والأطفال لا يعرفون لماذا يركضون.

أمي صارت تصمت كثيرًا، وأختي "آمنة" لم تعد تبكي، فقط تنظر إلى السماء كثيرًا، كما لو أنها تسألها: لماذا؟

وصلنا إلى هذا البلد البعيد.

قالوا لنا: "أنتم لاجئون".

قالوا لنا: "اصبروا، فالأزمة مؤقتة".

لكن لا أحد قال لنا: كيف نحمل كل هذا الحزن المؤقت إلى الأبد؟

في المخيم، لا توجد مدرسة ، لا ملعب ، لا كراسة نظيفة، أنا أكتب هذه الرسالة على ظهر كتابٍ قديم، صفحته الأخيرة مكتوب فيها: "مستقبل السودان".

يا ساعي البريد، قل لي ، هل لهذا الوطن مستقبل؟ وهل سيقرأ هذا "المجهول" إن وصلته الرسالة؟

كل ليلة، أتذكر لعبتي الصغيرة…

كانت سيارة زرقاء، أهديتني إياها أمي يوم نجحت في الصف الخامس.

تركتها في البيت حين هربنا، ولا أعرف إن بقيت.

لكني أشتاق إليها أكثر مما أشتاق للطعام.

أريد أن أعود إلى وطني، أن أركض مجددًا في شوارع حيّنا، أن أفتح دفتري في المدرسة، وأكتب فيه اسمي: "سيف الدين – السودان".

لكن ماذا تبقّى من الوطن؟

البيت احترق، والشارع تهدّم، والمدرسة أصبحت ثكنة عسكرية.

من تبقّى من أصدقائي لا أعرف، ومن بقي لا يعرفني.

في المخيم، نكتب على الرمل أسماء من ماتوا، ونرسم بيوتًا صغيرة من الحجارة.

نحلم ونحن نرتجف.

لا أحد يسمعنا .

يا ساعي البريد،

خذ هذه الرسالة، وأوصلها إلى أي شخص يؤمن بالطفولة.

لا ترسلها إلى زعماء الحرب، ولا إلى المفاوضين، ولا إلى من يتقاسمون الخراب كغنيمة.

أوصلها إلى مجهول يؤمن أن الأطفال ليسوا أرقامًا في نشرات الأخبار .

نحن نحب، نحلم، ونخاف.

نريد أن نلعب، نضحك، ندرس، وننسى هذه الحرب.

أخبره أنني لا أريد شيئًا كبيرًا، فقط أريد أن أعود، أن أجد لعبتي في مكانها، أن أجد أمي تضحك، وأختي تغني، أريد أن أكتب درس "مستقبل السودان" مرة أخرى، ولكن هذه المرة… لا على ظهر كتاب ممزق، بل في مدرسة حقيقية، ومعلم يضع يده على كتفي، ويقول لي: "أحسنت يا سيف، وطنك فخور بك".

وأخيرًا يا ساعي البريد،

إن لم تجد هذا المجهول، فاقرأها أنت…

لعل قلبك يحنّ.

لعلّك، يومًا، تعود إليّ برسالة ،

مكتوب عليها " عادت السودان " .

التوقيع :

من خيمة صغيرة في بلد غريب

سيف الدين – طفل سوداني يكتب كي لا يُنسى


مشاهدات 231
الكاتب  عمرو أبوالعطا
أضيف 2025/08/09 - 2:21 AM
آخر تحديث 2025/08/09 - 10:36 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 757 الشهر 6677 الكلي 11401763
الوقت الآن
السبت 2025/8/9 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير