الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الجرذ الذي أكل 62 ترليوناً ولم يتجشأ

بواسطة azzaman

الجرذ الذي أكل 62 ترليوناً ولم يتجشأ

حامد الضبياني

 

في بلادٍ تُشكِّلُ فيها الحكومة لجنة تحقيق على كل "درهم" مفقود من ميزانية نادي الصمّ والبُكم، وتستنفرُ الأجهزة الأمنية عند سرقة كيبل كهربائي من عمود ميت، وتُنظّم الندوات القانونية لمناقشة تشريع قانون يمنع المتقاعد من التنفس إلا بموافقة الدائرة المالية... في هذه البلاد ذاتها، خرج علينا "جرذيٌّ وطنيٌّ" شهمٌ، قادمٌ من إحدى المكونات الجرابية المشفوعة بالحماية والقداسة، ليأكل في ليلة ظلماء ما لا تأكله جرذان الكرة الأرضية مجتمعة: اثنان وستون ترليون دينار، يا سادة، دون أن يُخلّف وراءه حتى قشرة "محرمة" أو صوت قضمٍ في العتمة.ولأنّنا في وطن الأعاجيب، فقد مرّ الحدث مرور الجرذ من تحت باب البرلمان، دون أن يُنبح عليه كلب، أو تُسلَّط عليه كاميرا حرارية، أو يُصوّر في مسلسل رمضاني بعنوان "الجرذي في حضرة المال العام".الغريب، أو بالأحرى المعتاد في هذه البلاد، أن وزارة المالية - التي ما انفكت تعترض على حقوق المتقاعد المسكين وكأنها تدفع له من جيب أبيها - لم تطلق بياناً شاجباً، ولا حتى تغريدة يتيمة تندد بالجرذي الغاشم. بل الأدهى من ذلك، أن الوزارة ما زالت تحتفظ بهدوئها الكامل، وكأنها تقول لنا: "صحتين على قلبه، أهم شي ما طالب بتقاعد".

أين البرلمان؟ أين الجلسة الطارئة التي تُعقد عادة لمناقشة نكتةٍ قالها نائبٌ عن غير قصد؟ أين رئيس اللجنة المالية الذي هدد ذات مرة سائق تكسي لأنه لم يلتزم بالتسعيرة الرسمية؟ لماذا لم نسمع عن لجنة لتقصي أثَرِ الجرذي؟ لماذا لم تُعرض صورته على الشاشات، ويُسأل الناس: "هل رأيتم هذا الكائن يتجول قرب المصرف المركزي؟" لماذا لم يُعلن عن مكافأة لمن يُدلي بمعلومة عن مكان وجوده أو هويته الجريبية؟ هل هو من الجرابيع الكردية؟ أم من فئران الجنوب؟ أم من الهامستر المهاجر من الخليج؟ أم ربما هو "فأر خرطومي" يعمل ببطاقة خضراء صادرة من وزارة التخطيط؟والأعجب من هذا كلّه أن الإعلام الوطني – إعلام الردح والتطبيل – لم يتناول الخبر في إطار وطني، ولم نسمع تلك الجوقة المعروفة وهي تتغنّى بإنجاز الجرذي، ولم يُسجّل أحدهم مقطعاً بعنوان: "الجرذ بطل قومي – أنقذنا من الفائض النقدي".ألم يكن حرياً أن يُقدَّم الجرذي إلى المحكمة الجنائية الدولية؟ ألم يكن من الأجدر أن نرى محامياً وطنياً يدافع عن حقوق الموازنة المسلوبة؟ ألم يكن أجدر بالقضاء أن يرفع الجلسة في قضايا الطلاق، ويعقد محكمة طارئة لمحاكمة الجرذ الذي التهم 62 ترليوناً كما يلتهم السياسي "المقعد النيابي" في مأدبة تمويل؟

بل أين أحزابُ الفزعةِ الموسمية؟ لماذا لم نسمع من يقول: "هذا الجرذي لا يمثل فئراننا، وإنما هو دخيل مزروع من الخارج لضرب الوحدة الوطنية بين الجرابيع والكناغر"؟ ولماذا لم تُصدر مرجعية الفئران بياناً تطالب فيه بعدم تعميم التهمة على باقي السلالات؟ هل الجرذ ينتمي إلى طائفة الجرذان الطوافة؟ أم إلى المذهب السنابيلي؟ أم أنه يحمل جواز سفر مزدوج: جريبي-سنجابي؟

يا للمهزلة...

في أوروبا - يا سادتي - لو سمعوا أن جرذاً قضم نصف ميزانية الدولة، لخرجت الصحف بعنوان: "أوروبا تنهار.. والجرذ يفرّ"، ولأعلنت الحكومة استقالتها، وأُعلن الحداد الوطني، ووزعت الكمامات كي لا يشم أحدٌ رائحة الفضيحة. أما عندنا، فالجرذي بطل، والصامت عنه وليّ أمر، والسائل عنه فتنة، والمندّد به مندسّ عميل.

فلا عجب أن يُطارد العجوز الذي يتقاضى راتباً تقاعدياً لا يكفي لشراء جبنة للفئران، بينما يُمنح الجرذ حصانة وطنية، ودعم لوجستي، وإعفاء ضريبي، وقطعة أرض في قلب العاصمة يبني عليها "مغارة الجرذان المتحدة".كنا ننتظر برنامجاً بعنوان "من الجحر إلى القصر – حكاية فأرٍ صنع مجداً"، لكن للأسف، اكتفت القنوات بعرض خبر انفصال مغنية مغمورة عن طليقها بسبب السحر الأسود، وتجاهلت الكارثة الاقتصادية التي التهمت جيوبنا على يد كائنٍ رمادي اللون، طويل الذيل، يُشبه كل من سرقنا يوماً ثمّ وقف يخطب فينا عن الشرف والوطن والمقاومة.إنّنا نعيش في جمهورية الجرذان المتحدة، حيث الكواليس تُدار من جحور، والأموال تُبتلع بصمت، ثم يقال لنا: عجز في الموازنة، وشدوا الأحزمة، وتحرّكوا بعقلانية. أمّا الجرذ، فما زال حرًّا، يمارس هوايته اليومية في السطو، ويقضمنا قضمًا، واحداً تلو الآخر، ونحن نصفق له ونهتف: "عاش الجرذي الوطني، حامي الدينار من الفائض!".


مشاهدات 257
الكاتب حامد الضبياني
أضيف 2025/08/09 - 2:23 AM
آخر تحديث 2025/08/09 - 10:31 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 750 الشهر 6670 الكلي 11401756
الوقت الآن
السبت 2025/8/9 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير