رحلة إلى إيلام .. حين يتجلى الجمال في معناه الأشد
ايلام - حمدي العطار
في لحظات ما بعد الحرب، غالبا ما يفتش العقل عن المعاني التي لم تتضح بعد، وعن السر الكامن وراء الصمود والإيمان العميق الذي يتجلى في ملامح الشعوب. من هنا كانت رحلتي إلى مدينة إيلام الإيرانية، لا بدافع السياحة، بل بحثا عن المعنى… عن القوة التي تتكئ على الجمال، وعن الجمال الذي يستمد هيبته من الروح.
إيلام وجبل قلاقيران
رغم أن مدينة إيلام لا تنعم بمناخ معتدل صيفا كبعض مدن الشمال الإيراني، إلا أن جبالها —وإن كانت أقل خضرة من غيرها— تحتفظ برمزيتها، وتتكئ على تاريخ طويل من الكبرياء والثبات.
في شمال المدينة، يرتفع جبل قلاقيران شامخا على ارتفاع 2152 مترا، يراقب الأفق ويتحدى الزمن. يقولون عنه: «من أي نقطة تقف فيها، سترى قمة قلاقيران، ما دامت إيلام صامدة». وقد استوحي تصميم نصب آزادي الشهير في طهران من ملامح هذا الجبل، ليخلد في الذاكرة الإيرانية كرمز للاستقرار والثبات.
لعل أبرز ما شدني خلال زيارتي لإيلام (مع فريق لاماسو)هو حضورنا لأحد عروض الروزخانة، وهي رياضة روحية-بدنية تعود بجذورها إلى التصوف الإسلامي، وتمتزج فيها الحركات الرياضية بالأناشيد الحماسية والموسيقى التقليدية. هذه الرياضة ليست مجرد تمرينات عضلية، بل طقس أخلاقي وروحي يمارس داخل مبان ذات طابع معماري فريد.
يدخل الرياضيون المكان من باب منخفض، إشارة إلى التواضع. وتتوسط القاعة حفرة مثمنة الأضلاع تحت مستوى الأرض، تمارس فيها الحركات باستخدام أدوات تقليدية مثل الحديد، الكبادة، والحجر.
تعود هذه الرياضة إلى المحارب الأسطوري يوريا ولي في القرن الثامن الهجري، وقد أدرجتها اليونسكو في قائمة التراث الثقافي غير المادي، باعتبارها واحدة من أقدم فنون كمال الأجسام ذات البعد الروحي في العالم.
وفي إيلام، التقيت بمعلم روزخانة يحدثنا بفخر عن هذا التراث الذي يربط الجسد بالروح، ويمنح الممارس شعورا عميقا بالقوة النابعة من الانضباط، التواضع، والتكامل بين الشعر، الموسيقى، والعبادة.
اعتداءات شرسة
ورحلتي إلى إيلام جاءت بعد توقف الحرب القصيرة التي دامت 12 يوما، والتي صمدت فيها إيران بوجه اعتداءات شرسة شنتها إسرائيل بمساندة أمريكية، واستهدفت خلالها منشآت حيوية، على رأسها المفاعل النووي. لكن المشهد بعد الحرب كان مختلفا تماما: إيران لم تهزم، بل خرجت أقوى، وشعبها أكثر إيمانا واعتزازا.
في إيلام، لمست بوضوح أن القوة في هذا الشعب ليست فقط صاروخية أو ميدانية، بل معنوية قبل كل شيء. تلك الروح التي لا تنكسر، والثقة التي لا تتزعزع، والجمال الذي لا يخاف من القبح بل يهزمه بالمبدأ والمعنى.
الخاتمة
رحلتي إلى إيلام لم تكن سياحية تقليدية، بل كانت تجربة إنسانية عميقة. تعلمت أن القوة الحقيقية لا تقاس بما نملكه من أدوات، بل بما نحمله في داخلنا من مبادئ.
في إيلام، يتجلى الجمال في صورته الأشد: القوة. وهي قوة لا تستعرَض، بل تعاش في تفاصيل الحياة اليومية، وفي صمت الجبال، وفي أناشيد الروزخانة التي تحفظ للروح توازنها وللجسد قدسيته.