الديمقراطية المجازية .. وهم الخطاب وواقع الدولة
شيرين الجاف
منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وحتى عام 2003، شهد العراق محاولات متباينة لبناء نظام ديمقراطي مثل تجربة الجمهورية الأولى (1958–1963)، ظهرت بوادر توسيع المشاركة السياسية لكنها سرعان ما تحولت إلى سلطوية حزبية ، كما سعت أنظمة لاحقة لصياغة دساتير وقوانين تبدو ديمقراطية في ظاهرها لكنها كانت تُستخدم لضمان بقاء السلطة بيد نخبة ضيقة.
وحتى عام 2003 ظل العراق يعيش حالة من التذبذب بين بناء شكل الدولة الحديثة والانزلاق نحو نموذج سلطوي يرفع شعارات وطنية وثورية وديمقراطية بينما يمارس الإقصاء والرقابة والولاء الحزبي الصارم ومع كل التحولات السياسية التي مرت بها البلاد برزت ظاهرة «الديمقراطية المجازية» بوصفها الشكل الأكثر بروزًا من أشكال التزييف السياسي وهو خطابٌ يتحدّث بلغة الديمقراطية لكنه يفرغها من معناها الحقيقي ويستبدل جوهرها بشبكات محسوبية وقرارات تعكس إرادة الطبقة الحاكمة لا إرادة الشعب .
هيئات مستقلة
بعد عام 2003 أُنشئت مؤسسات تبدو ديمقراطية في بنيتها من برلمان مُنتخب وهيئات مستقلة ومفوضيات إلا أن هذه المؤسسات كثيرًا ما عُطلت وظيفيًا بسبب سطوة الأحزاب واستغلال النظام التوافقي للمحاصصة السياسية وبدلًا من أن تكون الديمقراطية وسيلة للمساءلة وتداول السلطة أصبحت غطاءً للتقاسم الحزبي وتوزيع المناصب على أسس طائفية وولائية حتى بات المواطن لا يرى في العملية الانتخابية سوى مسرحية تتكرر بلا نتائج فعلية وهذا يؤدي الى انتاج مواطن مشلول الإرادة السياسية يشعر أن كل شيء محسوم مسبقًا وأن مشاركته ليست إلا ديكورًا للشرعية كما يؤدي هذا إلى تعطيل أدوات الرقابة وتفريغ المؤسسات من الكفاءات لأن التعيينات تُبنى على أساس القرب لا الاستحقاق والمحسوبية لا المهنية واحد أكثر أشكال «الديمقراطية المجازية» وضوحًا في العراق هو استغلال المواقع الحكومية لتوريث النفوذ خصوصًا في التعيينات التي شهدناها لابناء واقارب المسؤولين في مواقع سيادية كالسفارات والبعثات الدبلوماسية.
هذه الظاهرة لا تمثل فقط تراجعًا عن مبدأ تكافؤ الفرص بل تكشف كيف أصبح الفضاء الديمقراطي مسيّجًا بمنطق العائلة والنفوذ السياسي، حيث يتحول المنصب العام إلى «ميراث وظيفي» وهكذا تصبح الدولة في ظل الديمقراطية المجازية أداةً لضمان الامتيازات لا لخدمة المواطنين .
ناشطة قانونية
ومن بين الأمثلة الصارخة على هشاشة الديمقراطية حين تُمارس كمجاز لا كمبدأ ما تعرّضت له المحامية زينب وهي ناشطة قانونية ذات حضور لمجرد أنها عبّرت عن رأي مخالف لتوجهات فئة معينة في المجتمع تحوّلت زينب من صاحبة موقف إلى هدف لحملات منظمة من التشهير والسخرية جرى فيها تداول صورها الشخصية خارج سياقها واستخدام مظهرها للنيل من مصداقيتها ومكانتها في انتهاك واضح لأبسط حقوق التعبير والكرامة الإنسانية
تلك الحملة لم تكن مجرد خلاف في الرأي بل كشفت كيف أن «الديمقراطية المجازية» تسمح بحرية التعبير فقط عندما لا تُهدد النـــــــــــــظام أو المزاج الجمعي أما إن تجرأ أحد على الاختلاف فستُستخدم كل الأدوات من التنمر الرقمي إلى التشهير الإعلامي لقمعه وهكذا يتبيّن أن ما يُسوّق كمساحة حرة للرأي هو في الواقع ساحة محروسة بمعايير مزدوجة لا تتسع إلا لأصوات متطابقة وتُقصي كل من يجرؤ على الانحراف عن الخط المرسوم.
وما نشهده اليوم في العراق وفي أنظمة كثيرة أخرى من انزياح الديمقراطية من الفعل إلى الرمز
يجعلنا نطرح السؤال الجوهري:
هل نريد ديمقراطية حقيقية نتحمل تبعاتها، أم نكتفي بديمقراطية مجازية نخدع بها أنفسنا والآخرين؟