همسات ساخنة...ومضات هادئة
عزوبية الكاهن بين الإلتزام والإختيار 2 - 2
لويس إقليمس
نكمل مقالتنا عن عزوبية الكاهن في حضرة الكنائس الشرقية والغربية واختلاف وجهات النظر الماضية بين الطرفين حول ضرورة التمسك والالتزام بأهداب قوانين كنسية تقليدية صارمة وأخرى تجيز له الاختيار بالارتباط الزوجي إلى جانب توشح الخدمة الكهنوتية...
عزوبية الكاهن، نعمة أم قصور
لا شكّ أن مجاراة البابا "فرنسيس" المنتقل إلى الأخدار السماوية يوم الاثنين 21 نيسان 2025) لفكر سلفه الراحل البابا بندكتس السادس عشر، بل لأسلافه بصدد هذا الموضوع الشائك، راضخًا أم مكرَهًا، فيه شيءٌ من الحكمة والرويّة وحسن الإدارة للرعية في جوانب كثيرة منه، ومنها ما يتعلّق بضرورة تفرّغ خادم الرب والمذبح لخدمة الكنيسة والنفوس بأصدق تعابير التضحية والخدمة المطلوبة المتنامية في عصرٍ تمزّقت فيه المجتمعات واتجهت الأفراد نحو أشكال مختلفة من اللامبالاة واللّاأدرية بل وشبه الإلحاد في جوانب من الحياة وما تتطلّبُه ضروراتُها. وإذا كانت مثل هذه التصريحات الصادرة من "بابَوَين" أخيرين في زمن التحديات الكبرى والأزمات العالمية والجوائح العصرية قد أثارت لغطًا كبيرًا في أوساط كنسية وعلمانية على السواء، فهي مدعاة للعودة الملحة إلى "الجذور العميقة للمشكلة "، بحسب البابا الراحل بندكتس السادس عشر. ولكن، تُرى، ما هي أصول هذه المشكلة وما هي جذورُها؟ وهل يمكن معالجتُها بقدرة عجائبية؟ فزمنُ هذه القدرات قد ولّى ولم يعد قائمًا، كما شقّ موسى البحر بعصاه بالأمس وفتح فيه ممراتٍ لعبور الإسرائيليين إلى أرض الأمان.
إنّ المشكلة اليوم أكبر ممّا يتصوّر بعضُ ضعيفي الفكر والتحليل والرؤية القاصرة للأحداث والوقائع وواقع الحال القائم في عموم أحوال كنائس العالم. فالمشكلة لم تعد تقتصر على كنائس الغرب حتمًا، بل تعدّتها في السنوات الأخيرة إلى عددٍ من دول العالم الأخرى التي كانت تُعدّ لغاية الأمس القريب مفقسًا ومصدرًا سخيًا للدعوات الكهنوتية والرهبانية على السواء. فأحوال العالم والهجرات الجماعية المتكررة بسبب الأزمات المتعددة والتحديات الكثيرة المتلازمة التي رافقت مسيرة الأمم والشعوب والدول قد حضّت وساهمت بالعزوف عن التقرّب من هذه الخدمة التي كانت لعصور متتالية شبه مقدسة ومعصومةً عصمةَ المقدَّس الذي لا يقبل بأيّ مدنّسٍ في صفوفه. هكذا كانت الحال، وهي لم تعد كذلك اليوم طبعًا. فالمقدّس الأوّل لم يعد قائمًا، إنْ لم يكن قد ولّى زمنُه ولم يعد ينفع ولا يتقبل الانحناء أو الانصياع الأعمى للرئاسات في كلّ شيء وأيّ شيء. تلكم من ضمن المتغيرات التي ضربت أصقاع الأرض وأقلقت الأديان وزعاماتها. والمسيحية لا تشذّ عمّا يجري في صفوف مؤمنيها وكنائسها بسبب تطور الأحداث المتسارعة، وكأننا مقبلون على عصرٍ آخر متغيّرٍ عن سابقيه ونجهل مصيرَه ومسيرة مستقبله.
رؤية الفاتيكان
إنّ رؤية الفاتيكان في مسألة لسنوات عديدة ، بدا لي أنه من الضروري العودة إلى الجذور العميقة للمشكلة "، يكتب البابا الفخري.تجنّب الانفتاح لرسامة كهنة متزوجين ودفاعَه المستميت في هذه الأوقات الحرجة عن عزوبية الكاهن المتأصلة في سرّ الكهنوت، بحسب النظرة الغربية للكنيسة "اللاتينية" للمسألة من منظارها الرعوي الأعلى، فيه إذًا من الموجبات والحسنات التي تحفظ جوهر سرّPendant de nombreuses années, il m'a semblé qu'il fallait remonter aux racines profondes du problème », écrit le Pape honoraire. الخدمة الكهنوتية من جهة، ومن المثالب والسلبيات المعاصرة في إمعانها بتجنّب اللجوء إلى البدائل المتاحة شكلاً وضمنًا وواقعًا بغاية إملاء الفراغات التي ماتزال قائمة، بل والمتزايدة في مواقع كنسية وخدمية كثيرة في صفوف دول الغرب "المُتَعلمِن" والمتجه نحو ديمقراطية وحرية المعتقد والدين بموجب سياسات حكومات هذه الدول التي أصبحت تفرض مبادئ العلمانية في كلّ خطوة من خطواتها، بالرغم من تشوّهها في هيكليتها وموجباتها وأدواتها. وهي بذلك تكاد تقضي على ما تبقى من ممارسات الوجود المسيحي ومظاهر المسيحية في كنائس هذه البلدان. وهذا ما يمكن ملاحظتُه بكلّ وضوح ومن دون تعب في دوائر ومؤسسات دول الغرب "العلماني" حتى النخاع حيث اختفت اية أحاديث أو توجهات أو تلميحات إلى مسألة الأديان. ونقصد هنا بكلّ تأكيد الابتعاد القسريّ عن كلِّ ما يمكن أن يتطرق لذكر المسيحية ورموزها أو يمسُّ ثقافة منتسبيها وتقاليدهم ومظاهر أعيادهم ومناسباتهم الدينية والموسمية التي تكاد تختفي من الوجود والذكر من قائمة االعطل الرسمية للدولة إلاّ خجلاً وحياءً قاصرًا.
من وجهة نظر البعض، إذا كانت هذه الرؤية المستميتة في فرض العزوبية على كهنة الغرب تعود لمسألة انضباطية وتنظيم رعوي بحت، فهذا ليس كافيًا للأخذ به وفق التطورات الجارية على قدمٍ وساق في شتى مناحي الحياة الموصومة بالتراجع في كلّ شيء، حتى في الالتزام الدينيّ في أيامنا هذه لأية أسباب قائمة أو مفروضة. فما يطفو على السطح من خروقات ونزعات وأخطاءٍ مشبوهة من جانب نفرٍ ممّن اختاروا العزوبية في لحظة أو غفلة من الزمن ليرتدوا الزيّ الأسود أو البنفسجي أو الأحمر أو الأبيض لأيّ سبب أو هدفٍ كان أو يكون، كفيلٌ بتفنيد هذه الرؤية "المقدسة المعصومة" من جانب المحافظين أو ما يُطلق عليهم بالمتشددين في جناح الكنيسة الكاثوليكية. ومهما كان مثل هذا "الارتباط السرّي-الوجوديّ بين العزوبية والكهنوت"، فإنه سيقف محتارًا بين التمسّك به احترامًا والتزامًا بالقوانين والأنظمة وبين كيفية معالجة النقص المتنامي في أعداد الفَعَلة ومشكلاتهم، كما تشير الإحصاءات والتقارير ويتحدث به الواقع. وسرعان ما تُثار هذه المسألة كلّما برزت إلى السطح فضائح أو تجاوزات أو خروقات شاذة أبطالُها كهنة أو مسؤولون كنسيون رفيعو الدرجات بداعي التحرّش الجنسي أو الشذوذ في السلوكيات أو كسر عصا الطاعة أو لأية أسبابٍ اجتماعية غيرها. أمّا نحن في الشرق الملتزم والنابع من الكنائس الرسولية، فلسنا استثناءً من مثل هذه الخروقات والمشاكل التي تعصف بكنائسنا، كاثوليكية كانت أم أرثوذكسية أو غيرها. فبين الفينة والأخرى، نصحو على فضيحة من هذا الصنو لتنشغل بها أوساط كنسية وشعبية وغيرُها لغاية وصول رائحتها غير المقبولة إلى خارج الأسوار الكنسية لتتلقفها أوساطٌ إعلامية تنشد الدعاية والنشر الأوسع وتتفاعل معها مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة بين مبرّر وصادمٍ ومدافعٍ ومنتقدٍ. ولعلَّ آخر حركة في هذا المضمار الواسع خلال السنوات الأخيرة من الألفية السابقة والحالية، وربما لن يكون الأخير في سلسلة الاهتزازات الكنسية، ما حصل من شرخٍ في صفوف كنائسنا الكاثوليكية من ترك الثياب الكهنوتية نهائيًا أو في محاولة البعض الانسلاخ عن رئاسات كنائسهم والالتحاق بكنائس بديلة مختلفة التوجهات والعقائد وبتبريرات لا ترقى إلى العقلانية والحكمة والرصانة. فقد كان بالإمكان معالجة العديد من هذه الحالات الشاذة العقيمة بشيءٍ من الحكمة والروية والحوار بعيدًا عن طغيان السلطة وفرض الرؤية وتوجيه الاتهامات التمرّدية على النخب الكهنوتية الشبابية التي كما يبدو ارتطمت طموحاتُها وأمنياتُها بعد النزول إلى الحقل الفعليّ بجبالٍ من الرفض والقهر أحيانًا، أو لاقت ما لم تكن قد حسبت له حسابًا في مسيرتها نحو إكمال الخدمة بالطريقة التي رسمتها لهم أحلام بلوغ مرحلة الكهنوت. ومن الطبيعيّ جدًا أن تقف مسألة العزوبية من عدمها، ضمن المبرّرات الحتمية أو الاختيارية لحماية طموحات الكاهن في مسيرته من أي انزلاقٍ غير مقبول كلّما شكّلَ الاختلاف في وجهات النظر بينه وبين رئاسته عائقًا في تهدئة الجوانب المثيرة للجدل أو الشكوك أو العصيان، كما نشهد من حالات حديثة.
ما الحلّ، يا أصحاب الحلّ والربط؟
دعونا لا نفقد الأمل بغدٍ كفيلٍ بإيجادٍ حلولٍ لما صارَ عصيًّا على أصحاب القرار والرأي طيلة دهورٍ ولّت وسنواتٍ حلّت وأزماتٍ ظهرت عبر التاريخ، عندما كانت إدارات الكنائس التقليدية لا تولي سمعًا لآراء وأفكار وطموحات وتحليلات النخب العلمانية المثقفة التي تعي أكثر من غيرها خطورة ما وصلت إليه شؤون بعض المؤسسات الكنسية "التعبانة" في إداراتها. فالكاهن بشرٌ، والبشرُ إنسانٌ ضعيفٌ! ويبقى البشرُ عنصرًا مهزوزًا من لحمٍ ودمٍ مهما طغت أصولية القوانين وانتصبت بوجهه التبريرات، وهو بحاجة إلى رعاية إنسانية وأبوية وراعوية حالُه حال بقية البشر. وبالتأكيد، ما ينفع منطقة دون غيرها، قد لا يصحُّ حلاً لغيرها. لكن، تبقى رؤية الإصلاح حجّةً قوية بأيدي الجناح الإصلاحيّ في أية ثقافة أو حضارة، ليس في مجتمع الكنيسة الكاثوليكية فحسب، بل في كنائس غيرها، بل وفي أوساط أديان أخرى من دون استثناء. فتلكم حتمية الحياة ومسيرتُها عندما تفرضها المتغيرات الثقافية والحضارية المتغيّرة مع تطور الزمن والبشر والحجر، لاسيّما في زمننا الراهن، زمن التقنية الرقمية الجارفة، في شكليها السلبيّ أو الإيجابيّ وهي تجتذب إليها كلّ المتغيّرات والمتخالفات والمتقاطعات وحتى المشكوكات في شذوذها وجدليتها.