قصة قصيرة
الوهـــــم
حميد الحريزي
اخذت تتقاطر طوابير سوداء صوب المبارك ، ذاع صيته بين ضفتي نهر (الياس)) كما يذيع خبر هروب عشيق مع عشيقته في قرية عراقية ، تبدو هذه الطوابير من بعيد وكأنها مزدوجة الراس ، لما تحمله من هدايا ونذور للمبارك الذي ((اشهر ) ) توا في قرية ((العميه )) ، الحمير محملة بأثقالها تبدو فرحة وهي تغذ السير نحو المبارك ، كفرح لقاء حبيب لحبيبه، تطلق العنان لحناجرها بين حين وآخر اعلانا للفرح وكأنه يخصها برابطة قربى ....
كان ((ريحان)) حنونا ، مميزا بالإيثار ، مشبعا بروح المشاركة ، فقد ولدا في يوم واحد هو و ((حمدان)) الذي توفيت امه اثناء عملية المخاض والولادة ، فكانت ام (( ريحان)) هي امه الثانية ، حيث اقتسم هو و ((ريحان )) ثديها ، فترعرعا معا برعايتها ، كانت ، سخية في منحهما حليبها ، مما جعل والد (( حمدان)) يوليها رعاية خاصة ، رغم كونه كان جلفا قاسيا في تعامله مع زوجه محملا اياها سبب عدم الانجاب لعدد من السنوات ، هذه الامنية التي تحققت اخيرا بولادة (( حمدان))، وموت والدته كنيجة طبيعية لما عانتها من قسوة وقهر زوجها ، وحدوث مضاعفات لم يحتملها جسدها العليل ...
لم يبخل وهو المعروف ببخله الشديد ، على ام (( ريحان)) بالطعام وعمل سقيفة خاصة تحميها من حر ومن برد ، فلابد ان ينمو (( حمدان)) معافى ، ليكون (( حزام )) ظهر ، وعزوة ، ووريث عهد والده ، على اقطاعيته ومواشيه وامارة عشيرته ، مما دفعه الى مضايقة (( ريحان)) ومنعه من رضاعة صدر امه ، ليكون ضرعها من نصيب ولده من صلبه ، فعمل واقية تحمل واخزات تمنع رضاعته ، مما يجعل الام تجفل منه عند محاولته الرضاعة ، لما يسببه لها من الم .
اخذ (( حمدان )) يتألم لما يلحظه من ضعف وتردي صحة اخيه بالرضاعة ، يوما بعد آخر ، دون ان يتمكن من مساعدته ، فلم يعد قادرا على مشاركته اللعب والعدو في الحقول والبساتين ، مما أثار مخاوفه وقلقه على اخيه ، وعلى مرضعته التي بدت حزينة ، عاجزة عن فعل شيئا امام قسوة وغلظة والد ((حمدان )) على ولدها ورضيعها المسكين ...
ذات صباح لم تشرق غرة (( ريحان )) كعادته كل يوم ، مما اثار مخاوفه وهرع صوب مضجعه ، فوجده جثة هامدة متخشببة لاحياة ولا حرارة فيها ، والدته (الاتان) منكسرة منهمرة الدموع تحوم حوله ، محاولة ايقاظه دون جدوى ، ما جعله يصرخ هائجا باكيا مهرولا صوب والده لإخباره بما حدث ، استقبله الوالد ببرود كبير مثير للقرف والاستغراب وكأنه على علم بما جرى ، قام متثاقلا استجابة لجزع وصراخ ولده ، بإجراء مراسيم دفن ل (( ريحان))، وهو ينظر شزرا لوالدته المفجوعة برضيعها العزيز ...
احس (( حمدان)) بفراغ كبير بعد فقدان اخيه الجميل تحت التراب قرب فسيلة طالما كانا يتسامران مستظلين بظلها ، فأصابته كآبة شديدة ، ارتفعت درجة حرارته، مما اقلق والده كثيرا ، ولم تنفع لشفائه لا اعشاب الجدات ولا تعاويذ الملالي ولا حتى ادوية اطباء المدينة ،وربطه بشباك ((السيد)) الذي يقع مرقده في الجانب الاخر من النهر ، والنذور المتعددة الموعودة التي وعد بها والده ل (( السيد)) عند اكتساب ولده الشفاء ، فسيطر الهم على والده زعيم القبيلة التي شاركت اميرها حزنه وكمده على ولده الوحيد ، خصوصا وقد شح حليب مرضعته وهي تعيش الم فراق رضيعها ، وهو يرفض رضاعة غيرها ممن تبرعن بذلك عطفا على (( حمدان)) ، اخذوا يجلبون له الهدايا واللعب وأنواع الاكلات دون جدوى ....
في لجة هذيانه وموجات الحمى الشديدة طلب ممن حوله اخذه لزيارة قبر اخيه ، في البستان ، فكان له ما اراد ، حيث حمل الى قرب القبر ، وضعوه تحت ظل الفسيلة وشجرة الرمان والفسيلة الاثيرة لدى اخيه ، شمته مرضعته منهمرة دموعها حزنا على حاله لفقدانه اخيه ، انكفأ على وجهه يشم تراب القبر ، متلفظا بكلمات لها صوت كصوت النهيق ...
حاول والده ان يلاطف مرضعته ، فعاجلته برفسة خلفية قوية ، افلت منها باعجوبة ، فقد كادت ان تحطم رأسه وتذهب بحياته ...
شيئا فشيئا بدأ (( حمدان)) يستعيد حيويته ، وتغادره رجفة الحمى ، طلب شربة ماء ، شرب وسكب الباقي على قبر اخيه ممزوجا بدموعه وحسراته ، جلس طالبا الاكل فاطعم رطبا ولبنا ، فكان محل استغراب الحضور وعجبهم للتحسن السريع والمفاجئ لصحته ، تهللت الوجوه بالفرح وعمت بينهم البشرى ، فرقص الرجال وزغردت النساء ، نحرت الخراف ، فرحا واستبشارا بشفاء عزيزهم ، وهو عند قبر المبروك ((ريحان))، فشاع خبر شفائه بين سكان قريته والقرى المجاورة ، اخذ الناس رجالا وتساءا وأطفالا يتوافدون الى قبره، للتبرك وطلب الشفاء وتحقيق المراد ، وقد تحدث الكثيرون عن كراماته ، فمن كان مريضا شفى ، ومن تعثر عيشه اصبح موسرا ، ومن جفاها زوجها عاد اليها صاغرا ، وووو، فتضاعفت النذور والهدايا ، على مختلف انواعها ، حبوبا ، ودجاج، وخرافا وعجول وأقمشة وفواكه ، وقد اصبح (( ابو حمدان)) راعيا لقبر المبروك ، متلقيا النذور ، وموقدا للشموع والبخور ، وسط حيرة ودهشة (( حمدان )).
لوحظ عزوف الزوراق التي كانت تحمل الزوار كل خميس الى مزار (( السيد))في الجانب الثاني من النهر ، رغم ضخامة ووثوقية شجرة نسبه وحسبه ، في حين يزداد عددها باطراد لتتوقف عند قبر (( ريحان))، مما اثار حفيظة القيمين على ضريح(( السيد)) ، وقد شنوا حملة تشكيك واسعة النطاق ، حول اصل وفصل (( ريحان)) ولكن دون جدوى ، فلم يطل بهم المقام حتى اتوا حاملين نذورهم للتبرك ، وطلب المغفرة ...
تبرع اهل (( العميه)) ببناء (( ضريح)) للمبروك ، وتم تسييجه بسياج امتد لعشرات الامتار ، و فرشه بالحصران والسجاد والوسائد المزخرفة المزينة بالنقوش ، و تعيين يوم يوما خاصا بزيارته وهو نفس يوم شفاء (( حمدان)) من مرضه الوبيل ، تفتح الابواب مشرعة للزائرين في هذا اليوم مع ملاحظة عدم السماح بدخول الدواب والحمير ، مما جعل ام (( ريحان)) تطوف ناهقة حول سياج قبته ، مما اضطر (( ابو حمدان)) الى طردها بعيدا عن السياج ،وان يسدد لها طلقة من مسدسه مرديا ايها جثة هامدة لمنعها من تدنيس قدسية المكان ، لتكون وجبة دسمة للكلاب والثعالب والعقبان !!! .