بين ظاهرة التيك توك وقيمة القراءة النقدية .. جيل اللمسة الواحدة
كيف نخاطب عقولاً تبحث عن العمق في زمن السطحية؟
أسامة أبو شعير
تمهيد: زمن تغيّر فيه العقل
في قلب التحولات الرقمية المتسارعة، بات الشباب يتعرضون يوميًا إلى ما يُشبه النظام الغذائي المعرفي فائق المعالجة: محتوى سريع، مبسّط، سطحي، يعزز ردّ الفعل الفوري أكثر من التفكير العميق. ومع تصاعد هيمنة “القراءة الأفقية” على حساب “القراءة العمودية”، تفقد المجتمعات ليس فقط عادتها القرائية، بل أدواتها العميقة في التفكير، والحوار، وبناء مشروع وطني مشترك.
القراءة، كما عرفناها في سياقاتها التكوينية، لم تكن أبدًا استهلاكًا سريعًا، بل رحلة طويلة تتطلب الصبر، والتمهّل، والقدرة على الجلوس مع الفكرة حتى تُفهم. واليوم، في عالم يقدّم الوجبات المعرفية سريعة ومعلّبة، تراجعت مهارة “الصبر المعرفي” التي تُعتبر أساسًا في بناء العقل الناقد والمواطن المدرك.
في العراق، يشكّل الشباب بين 18 و24 عامًا أكثر من 13بالمئة من السكان، أي ما يزيد عن 6 ملايين شاب وشابة (وزارة التخطيط، 2023). هذه الفئة لا تحدد فقط مستقبل التعليم أو سوق العمل، بل ترسم أيضًا ملامح الخطاب الوطني والاتجاهات السياسية والاجتماعية المقبلة.
تشير بيانات DataReportal (2024) إلى أن أكثر من 36 مليون عراقي يستخدمون الإنترنت، أي نحو 79بالمئة من السكان، بينما يتفاعل أكثر من 31 مليون شخص مع وسائل التواصل الاجتماعي يوميًا. ورغم هذه القدرة التقنية الهائلة، تُظهر نتائج الانتخابات المحلية (ديسمبر 2023) أن المشاركة السياسية لدى الشباب لم تتجاوز 25 بالمئة (مفوضية الانتخابات، 2024).
ما يُفهم من هذا التناقض هو أن الاتصال لا يعني الاندماج، وأن التفاعل الرقمي لا يُترجم بالضرورة إلى وعي سياسي أو ثقافي. بل إن هذا التفاعل قد يزيد من التشتت عندما لا يكون مصحوبًا بعمق معرفي ومهارات تفكيك المحتوى.
بين الشاشات والنصوص: معركة غير متكافئة
العقل الشاب اليوم يعيش ما أسماه الباحثون بـ“الانتباه المتشظي”. إنه ينتقل بسرعة من مقطع إلى آخر، ومن منشور إلى آخر، دون أن تمنحه هذه التجربة المساحة الكافية للمعنى، أو للاندماج في فكرة. ولكن الأخطر من ذلك هو تراجع القدرة على التأمل، والصبر المعرفي، وتحمّل الغموض الفكري.
وفقًا لماريان وولف، مؤلفة Reader, Come Home، فإن “الصبر المعرفي” هو حجر الزاوية في التفاعل النقدي مع المعرفة. وغيابه يهدد بتقليص قدرة الجيل على الحكم، والتمييز، واتخاذ المواقف الفكرية والسياسية المستقلة.
حين تُفرّغ المدرسة من الفكرة وتُحمّل الطالب بالحفظ
يصعب الحديث عن القراءة كفعل تحرّر فكري، دون التطرق إلى فشل المنظومة التعليمية – بما في ذلك التعليم العالي – في تأسيس عقل قادر على الفهم والتساؤل. فبدلًا من أن تكون المدرسة مساحة للتفكير، أصبحت “منصة اختبار” تُكافئ من يحفظ أكثر لا من يفهم أعمق.
تقرير مؤشر المعرفة العالمي 2023 صنّف العراق ضمن الدول الأقل أداءً في مجالات التفكير النقدي. وفي دراسة أجراها مركز البيان (2022)، قال 74 بالمئة من الطلاب الجامعيين إن مناهجهم لا تُعزز النقاش أو السؤال.
إن غياب القراءة التحليلية كمهارة مركزية في التعليم العراقي ليس صدفة، بل نتيجة تراكمية لنظام يربط التعليم بالتلقين أكثر من الفهم، والامتحان أكثر من الاستيعاب.
نحو جيل صانع للخطاب لا مستهلك له
ما نحتاج إليه ليس فقـــــــــط خطابًا وطنيًا جديدًا، بل أسلوبًا جديدًا في صناعة هذا الخطاب. يمــــــــــكن تصور حــــــملة وطـــــنية تقوم على:
1.استخدام الوسائط القريبة: مثل بودكاست “المنصة” الذي يناقش السياسة والدستور بلغة شبابية، وبلغ عدد مستمعيه أكثر من 100 ألف (أنغامي، 2023).
2.تمكين الشباب: كما في مبادرة “تمكّن” التي درّبت عشرات الشباب على صياغة برامج سياسية شبابية في بغداد والبصرة.
3.تعزيز العمق: عبر ورش مثل “الدستور في الشارع” بجامعة الموصل، حيث ناقش الطلاب مواد الدستور مع المارة بلغة مبسطة في 2022.
أمثلة من الواقع: بين الوعي الرقمي والنقاش الحقيقي
في عام 2021، سجل أكثر من 1.2 مليون شاب دون سن الثلاثين للمشاركة في الانتخابات، رغم الشكوك في العملية. وفي دراسة لـ NDI عام 2022، عبّر أكثر من نصف المستطلعين عن رغبتهم بالمشاركة إذا توفرت بيئة إعلامية نقاشية ومستقلة.
وفي تجارب جامعية غير مركزية، تبنّى طلاب مبادرات تطوعية لمناقشة مسودات القوانين، واستضافة حلقات حوارية في المكتبات والمقاهي الثقافية بعيدًا عن الأحزاب أو الأطر الأيديولوجية الضيقة. مثل هذه المبادرات الصغيرة تحمل بذور التحول.
لكن… هل يمكن تدريس النظام السياسي في عراق منقسم؟
تدريس النظام لا يعني تمجيده بل تحليله. في لبنان، تُدرّس مادة “التربية الوطنية” من الصف التاسع حتى الثاني عشر، وتتناول النظام الطائفي نقديًا (مؤسسة مهارات، 2022). العراق قادر على السير في هذا الاتجاه إن توفرت الإرادة.
ولتحقيق ذلك، يمكن اتباع ثلاث مسارات:
•لجان مستقلة داخل وزارة التربية تضم مختصين غير حزبيين.
•إنتاج محتوى موازٍ من قبل الجامعات والمراكز الفكرية المستقلة.
•الاستفادة من الوسائط الرقمية لنشر مفاهيم النظام السياسي بلغة نقدية مبسطة وغير خاضعة للرقابة.
الهوية الرقمية والسياسية: فجوة لا تسدها التقنية فقط
في ظل هذا التحول الرقمي الكبير، باتت الهوية السياسية لدى الشباب مفصولة عن هويتهم الرقمية. فهم حاضرون بكثافة على الإنترنت، لكنهم غائبون إلى حد كبير عن الفضاء السياسي التقليدي. هذا التناقض لا يُحل بمجرد فتح قنوات مشاركة إلكترونية، بل يتطلب إعادة بناء الثقة بالمؤسسات والعملية السياسية.
التقنية أداة، لكنها لا تصنع وعيًا تلقائيًا. بل قد تساهم، إذا لم تُوجّه، في ترسيخ “اللا-موقف” وتعزيز نمط الحياة القائم على التمرير والتصفح دون تفكير أو اتخاذ موقف.
خاتمة: من القراءة إلى الاقتراع – نحو سردية وطنية جديدة
هذا المقال لا يقدم ترفًا ثقافيًا ولا حنينًا للماضي، بل يطرح سؤالًا عميقًا عن هوية العراق القادم: من سيكتبه؟ وكيف؟ ومن سيفهمه؟ القراءة النقدية ليست مجرد مهارة، بل شرط وجود لسردية وطنية تتجاوز الطائفية والمحاصصة وتستبدلها بلغة الفهم والتفكير والتأمل.
جيل اللمسة الواحدة، الذي يتعرض يوميًا لانفجار المحتوى الرقمي، ليس جيلًا ضائعًا. بل هو جيل يفتقر فقط إلى سياق يؤمن به، ورسالة تحترم ذكاءه، ومساحة تعترف بحقه في الشك والتساؤل.
ولذلك، فإن المشروع الوطني الذي نحتاجه اليوم لا يبدأ من تغيير الدستور فقط، بل من تغيير طريقة تعليمنا للواقع، وقراءتنا له، ومشاركتنا فيه. يبدأ من فكرة بسيطة: أن من لا يقرأ لا يمكن أن يصوّت عن وعي، ومن لا يراجع لا يمكن أن يبني وطنًا مختلفًا.
جيل اللمسة الواحدة يمكن أن يكون جيل التأسيس الجديد، إذا خاطبناه بما يشبهه… وارتقينا به لما يستحق.