الكاتب.. بين السلطة والتورية
عصام البرّام
الكتابة، في جوهرها، فعل مقاومة وانكشاف، لكنها أيضاً ساحة للصراع بين الكاتب والسلطة، سواء كانت سياسية، أوأجتماعية أو ثقافية. ففي سعيه للبحث عن الحقيقة، يجد الكاتب نفسه في مواجهة تحديات تفرض عليه الموازنة بين الجرأة والتورية، بين الصراحة والرمز، وبين حرية التعبير وحدودها المفروضة. ومنذ أن وُجد الإنسان، وُجدت السلطة التي تسعى الى تقييد أفكاره، كما وُجد أيضاً، الكاتب الذي يبحث عن الحقيقة في مفاصل الحياة وبكل ما يحيطه رغم كل العقبات. فالكتابة ليست مجرد أداة للتعبير عن المشاعر أو نقل المعرفة، بل هي سلاح يواجه به الكاتب الأكاذيب والمغالطات، ويُسهم في تشكيل وعي المجتمع. لكن في هذا الطريق، يواجه الكاتب معضلات معقدة: فألى أي مدى يستطيع ممارسة حريته دون الأصطدام المباشر بالسلطة؟ وكيف يوازن بين كشف الحقيقة وعدم التعرض للقمع أو التضييق؟ وهل التورية شكل من أشكال الخوف أم أنها أداة ذكية للبقاء والاستمرار؟
الكاتب والسلطة والتورية: صراع أبدي أم سلاح أدبي؟
ولطالما شكلت السلطة، بأشكالها المختلفة داخل مؤسسات الدولة، قيداً على حرية الكاتب، وإن الأنظمة السياسية تسعى الى ضبط السرد والتحكم في الخطاب العام، فيما تفرض الأعراف الاجتماعية قيوداً غير مكتوبة على ما يمكن قوله وما يجب تجنبه. فالكاتب الحقيقي، بطبيعته، ليس تابعاً لأي سلطة، بل هو في صدام دائم معها، يسائلها ويكشف تناقضاتها، وهو ما يجعله عرضة للمضايقات أو حتى القمع في بعض الأحيان.
ففي مواجهة الرقابة والملاحقة، يدفع الكاتب للجوء الى التورية، وهي أداة لغوية تتيح له تمرير الأفكار بذكاء، حيث يقول ما لا يُقال صراحة، ويوصل المعنى عبر الرمز والإستعارة، وقد وجدنا في عصور القمع المختلفة، إن الكتابة الرمزية قد آزدهرت، سواء في الأدب او الصحافة، كوسيلة لتجاوز الخطوط الحمراء دون الاصطدام المباشر بالسلطة ومن يدور في مدارها، فالتورية ليست جُبناً، بل براعة في إيصال الرسالة دون أن تكون فريسة سهلة لمن يريدون قمع الفكر وحرية التعبير.
إن حرية التعبير هي الركيزة الأساسية للكتابة الصادقة، لكنها ليست مطلقة بلا قيد، بل عليه أن يعرف كيف يوظف مفردات أفكاره. فبينما يسعى الكاتب الى كشف الحقيقة، عليه أن يدرك أثر كلماته على المجتمع والفرد. فهناك خيط رفيع بين حرية التعبير والفوضى الفكرية، وبين النقد البناء والتحريض، وبين التحدي المشروع والتجاوز الذي قد يُستخدم لتبرير القمع لاحقاً، مما سيشكل له مردوداً سلبياً لما يصبو اليه.
الكاتب والتورية في مواجهة السلطة: صراع متجدد
ولطالما شكلت العلاقة بين الكاتب والسلطة علاقة صراع وتوتر، حيث ترى الأنظمة الحاكمة في الكتابة الحرة تهديداً لوجودها وكياناتها، فتسعى إما الى آحتواء الكاتب وتوجيهه، أو الى إسكات صوته بوسائل محتلفة، تتراوح بين الرقابة والتضييق، أو الإغراء بالمال أوأحياناً تصل الى الإعتقال أو النفي. فالسلطة لا تعني فقط الحكومات، بل تشمل أيضاً المؤسسات غير الحكومية التي لها منافع واسعة داخل كيانات الدولة وخارجها، وحتى القوى الاقتصادية التي تتحكم أو تحكم الإعلام وتوجيه الخطاب العام.
ففي الأنظمة الشمولية، يكون الكاتب مقيداً بقوانين صارمة تمنعه من إنتقاد السلطة بشكل مباشر، حتى في الدول التي تدّعي الديمقراطية، هناك خطوط حمراء غير مكتوبة تُفرض على الكاتب، سواء من خلال الضغوط الإعلامية أو التهديدات القانونية، لكن الكاتب الحقيقي يظل دائماً منحازاً الى الحقيقة، حتى لو أضطر لدفع الثمن. ومن أجل مواجهة القمع والمطاردة وكل أوجه الاضطهاد الفكري، ظهرت التورية كأحد الأساليب الدفاعية التي يستخدمها الكاتب ليحافظ على رسالته دون أن يقع في فخ الرقابة المباشرة.
فالتورية ليست ضعفاً أو إستسلاماً، بل هي فن إيصال المعنى بطرق غير مباشرة، عبر الرمزية والإيحاء. فالأدباء والشعراء أستخدموا التورية عبر التأريخ، حيث نجد الشعر العربي القديم والحديث منه، حمل رموزاً وإشارات سياسية وإجتماعية كانت تخفي بين سطورها إنتقادات واضحة. حتى في الأدب العالمي، فقد إستخدم الكاتب العالمي جورج أورويل في روايته (مزرعة الحيوان) أبطاله من شخصيات حيوانية، التي تناول فيها الاوضاع بعد الحرب العالمية الثانية ومن قبله كتاب (كليلة ودومنة) التراثية، كذلك الحال مع الكاتب ألدوس هكسلي وكيف وظّف الخيال والسخرية لنقد الأنظمة الاستبدادية دون التعرض المباشر للعقاب. لكن التورية قد تتحول الى سلاح ذو حدين، فعندما يعتمد عليها الكاتب بشكل مباشر، قد تصبح كلماته مبهمة أو غير مفهومة لجمهوره، مما يُضعف تأثير رسالته. لذلك، تبقى الموازنة بين التورية والوضوح تحدياً دائماً أمام الكاتب الحر.
حرية التعبير: بين الحق والمسؤولية
إن حرية التعبير حق أساسي، لكنها ليست مطلقة بلا ضوابط. فالكاتب بأن يكون مسؤولاً عن كلماته، بحيث لا تتحول حرية التعبير الى فوضى فكرية أو وسيلة لنشر الأكاذيب والتحريض. فالفرق بين الكتابة الناقدة والكتابة الهدّامة؛ هو نية الكاتب ومدى التزامه بالأخلاق المهنية وأحترام أفكاره وقلمه.
فنجد في بعض الأحيان، يُستخدم مفهوم (حرية التعبير) لتبرير الإساءة أو نشر المعلومات المغلوطة. هنا، يصبح التحدي الحقيقي أمام الكاتب هو ممارسة حريته بشكل مسؤول، بحيث يحافظ على خطابه النقدي دون أن ينجرّ الى الفوضى أو الاستفزاز غير المبّرر. كما إن الكاتب الحقيقي لا يكتب لإرضاء السلطة، ولا ليجامل المجتمع، بل يكتب بحثاً عن الحقيقة. هذه المهمة تجعله دائماً في موقف صعب، لأنه كلما آقترب من كشف الحقائق، زادت عليه الضغوط من مختلف الجهات.
فالمؤرخون، والصحفيون، والأدباء، وحتى المدونون في العصر الحديث على منصات التواصل الاجتماعي، جميعهم يتحملون مسؤولية كشف الواقع أمام الناس. لكن هذا البحث عن الحقيقة ليس مجرد عمل فردي، بل هو معركة طويلة تحتاج الى شجاعة وإستمرارية، فهناك كتّاب دفعوا حياتهم ثمناً لكلماتهم، وآخرون تم نفيّهم أو سجّنهم بسبب مواقفهم، لكن أثرهم بقي الى يومنا هذا، وكلماتهم أستمرت في التأثير حتى بعد رحيلهم.
في حين نجد بعض الكتّاب يختارون الخضوع للسلطة، إما بسبب الخوف أو الطمع في المكاسب الشخصية، وهؤلاء يصبحون مجرد أدوات في يد الأنظمة، يكتبون ما يُملى عليهم، ويُزيفون الحقائق لخدمة مصالح معينة. لكن الكاتب الحقيقي لا يبيع قلمه وضميره، ولا يكتب إلا ما يؤمن به وتُملي عليه ذاته بما يقتنع به. إذاً ، هناك طريقان أمام الكاتب؛ إما أن يكون بوقاً للسلطة أو يكون ضمير المجتمع. الأول قد يعيش حياة كريمة مريحة، لكنه يفقد إحترام الناس والتأريخ، بينما الثاني قد يواجه صعوبات، لكنه يظل رمزاً للمقاومة والتنوير وكشف الحقائق.
إن الكتابة الحقيقة ليست مجرد فن، بل هي مسؤولية، بين سلطة تفرض قيودها، وتورية تحاول التملص من القمع، وحرية تعبير تُهدَّد بأستمرار، فيبقى الكاتب في معركة دائمة للبحث عن الحقيقة. قد يخسر معارك، لكنه في النهاية يكسب الحرب، لأن الكلمة الصادقة تبقى، بينما السلطة الزائفة الى زوال. وفي نهاية المطاف، يظل الكاتب الباحث عن الحقيقة أقرب الى المحارب في معركة غير متكافئة. فهو يواجه سلطة تتغير أشكالها، لكنه يمتلك سلاح الكلمة، الذي قد يكون أشد وقعاً من السيف. بين قيد السلطة وحيلة التورية، وبين حرية التعبير وحدودها، لذا ينبغي على الكاتب أن يبقى مطالباً بأن يكون صوتاً لا يخاف، وحبراً لا يجف، وعقلاً لا يُكبل.