نقطة ضوء
العمر بلحظات سائبة
محمد صاحب سلطان
على غير العادة المتبعة في الكتابة، سأبدا من حيث إنتهت خلاصة سنوات العمر، بقضها وقضيضها وهي تتمرجح بين الرضا والشكوى، والقناعة والطموح، بين لا وقت لحك شعر الرأس من زحمة العمل والإنشغال بمتطلباته، وبين لا عمل محدد لشغل وقته، جراء الفراغ الذي يعيشه (المتقاعد)، سوى ذكرياته التي بات أولاده وأحفاده هم الوحيدون المصغون لها، كلما ملوا ألعابعهم الإلكترونية، أو حين يلتقي أقرانه الآخرين بجلسات جلد الذات لمثلث (الراتب -الدواء-جحود الأقربين)، بدلا عن (الماء والخضراء والوجه الحسن) كما في سابق حواراتهم!، والأمر برمته، كما يعتقد بعضهم، يعود إلى طبيعة الإنسان في كل زمان ومكان، فهو يطلب العدل حين يكون محروما، فإذا حصل عليه بخل به على غيره!، ويبحث عن الشهرة والصعود بسرعة الصاروخ، ويبذل أقصى جهده كي يعرفه الناس جميعا، يستخدم كل الوسائل المتاحة لديه ويحفر بالصخر كما يقال، يتشبث، يتملق، يتسلق على أكتاف الغير، أو يجوع ويعرى ويسهر الليالي ويحرق الزمن كي يصل، يتفصد عرقه حتى يكل بدنه ويتصدع ذهنه، وتغرورق محاجره بالدموع التي تؤنس وحدته، لكنه عندما ينال شهرته ويصبح تحت أعين الجميع، نراه يلبس نظارة سوداء ليتحاشى معرفة الناس له بعد ذلك!، بل إن بعضهم يتمنى لو يمتلك طاقية الإخفاء كي لا يرى!، فيا للمفارقة، ويا للعجب، لا نلتفت لمن يحبنا، ونتجرع العلقم لإجل من لا يعبأ بنا، وهكذا الناس منذ الأزل ،كانوا وما زالوا فئتين، ذات الحظوة وذات الحسرة!، ومسكين من يرى غيرها، فالزمن هكذا حاله، مثل أرجوحة تتمايل صعودا ونزولا بأناس، تبهرهم حركة تمددها نحو الأعلى، وأناس تقبض قلوبهم سرعة تراجعها، حركة تبدأ بضحكة وتنتهي بشهقة، مثل سياسة البعض، إن لم تكن كل شئ، فإنها في كل شئ!، تفوق التوقعات ولكن بطريقة سلبية دوماً، على الرغم من ظرافة حوادثها!
وتأسيسا على ما تقدم، نرى اليوم، ان الرغيف والدواء، باتا من الأحلام الوردية التي يسعى المتقاعدون إلى الحصول عليها بيسر، بعد أن أغلقت عليهم ينابيع توريدها، فالراتب التقاعدي لا يكفي لصرف (راجيتة) دواء مع تكاليف زيارة طبيب، نسي خصال مهنته ونزع عنها لباس الرحمة، وحولها إلى صدرية قصاب جشع، همه الأول أن لا تبات بضاعته ولا يقل سعرها، وكذا حال الحصول على متطلبات العيش الأخرى، مما يضطر المتقاعد بسنواته المثقلات بالتعب والشقاء، إلى البحث عن بديل معيشي ،يسد به كفاف يومه وحاجة عائلته، فيأتيه الجوّاب: يا عم لم تتعب حالك وانت في هذا العمر، فهذا الزمان غير زمانك، وأدواته غير أدواتك، ولغة عصره غير لغة عصرك، ونحن لن نحتاج الى شهاداتك وخبراتك وحصيلة تجاربك الطويلة، ونحول جسدك وتقوس ظهرك، فالآلة أضحت هي البديل، والذكاء الاصطناعي هو المدير وكل شئ جاهز و(ديلفري)، وطلبات التكنلوجيا باتت توفر العروس وأنت تبحث عن الفلوس!، فأجلس في دارك وأحفظ شيباتك من التنمر.. وأفهم علنآ!!.