خنق الجامعات من أجل فك الزحام المروري
اسماعيل محمود العيسى
في بلد يعيش أزمة تعليم وغيابًا للتخطيط، لا عجب أن تصدر قرارات تُبنى على منطق اللحظة وتُفرض على الجميع وكأنها وحي منزل، قرار مجلس الوزراء رقم 24213 لسنة 2024؛ الذي حدد توقيتات مختلفة لدوام مؤسسات الدولة؛ وخصّ الجامعات ببدء الدوام في الساعة العاشرة صباحًا؛ جاء تحت مبرر تقليل الزحام المروري؛ وكأن التعليم العالي والجامعات فيه؛ باتت هي سبب الازدحام في شوارع بغداد، وبدل أن يتم إصلاح منظومة النقل؛ أو إعادة هيكلة حركة السير؛ أو جدولة خطوط الخدمة؛ يتم اقتطاع ساعة ذهبية من عمر الجامعة ومكانتها لحل أزمة اختناق مروري لا علاقة لها بها أصلًا.
الجامعة التي كانت – وينبغي أن تظل – رمزًا للانضباط؛ ومنطلقًا للفكر؛ ومؤشرًا على جدية الدولة؛ تم تأخيرها لتكون آخر من يبدأ يومه؛ وكأن الأمر لا يعنيها؛ وكأن الطلبة لا يحتاجون إلى ثقافة النهوض المبكر ولا إلى محاكاة العالم في احترام الوقت، والأسوأ أن القرار يمرّ دون دراسة ميدانية؛ ودون رأي المختصين؛ ودون وعي بتأثيرات هذا التوقيت على طبيعة المحاضرات والمواد والأنظمة التعليمية؛ لم يفرّق القرار بين الكليات النظرية والعلمية؛ ولم يراعِ ساعات المختبرات؛ ولم يضع في اعتباره أن بعض الكليات تعتمد نظام الدوام المزدوج الذي لا يمكن تنفيذه بهذه الطريقة.
هل المطلوب من الطالب أن ينام بعد منتصف الليل لأنه يعلم أن دوامه في العاشرة؟ وهل المطلوب من الأستاذ أن ينتظر انتهاء الازدحام حتى يبدأ يومه؟ وماذا عن الطالب الذي يسكن في أطراف بغداد ويحتاج إلى أكثر من ساعة للوصول؟ هل ننتظر أن يدخل المحاضرة في الحادية عشرة؟ وهل نتصور فعلًا أن هذا القرار سيقلل الزحام؟ بل هل راجع أحد ما إذا كان الطالب الجامعي يملك وسيلة نقل خاصة أصلاً؟ ألم يلاحظوا أن معظم الاختناقات المرورية تقع قبل السابعة والنصف، وأن النقل العام غير منظم أصلًا؟
لقد عشنا في دول تُبنى فيها الأنظمة على أسس تربوية صارمة؛ لا على مزاج المرور؛ ففي الإمارات على سبيل المثال يبدأ دوام رياض الأطفال والمدارس في السابعة والربع صباحًا؛ وينتهي في الثانية والنصف ظهرًا؛ وتُبنى حياة الأسرة كلها على هذا التوقيت، فينام الطفل باكرًا؛ وينام أهله؛ ويستيقظ الجميع في السادسة؛ فترتبط الساعة البيولوجية للأسرة كلها بإيقاعٍ حضاريٍّ صحي، أما نحن؛ فنريد أن نقنع الناس أن حل أزمة بغداد المرورية يكمن في تأخير الجامعة!
هذه ليست إدارة دولة بل محاولة ترقيع؛ ليست رؤية بل ردة فعل؛ من أراد أن يقلل الزحام؛ فليعالج أساسه لا أعراضه؛؟وليستعن بالاختصاصيين؛ لا أن يلقي عبء فشله على المؤسسات العلمية.
الجامعة لا يجب أن تكون ضحية؛ ولا هامشًا؛ ولا وسيلة للهروب من الواقع؛ بل يجب أن تكون أول من يبدأ؛ لأنها أول من يعلّم.
ما حدث ليس تخطيطًا… بل تخبط؛ وليس حلاً… بل هروب من الحل؛ والجامعة لا يجب أن تدفع الثمن.