قراءة متأنية
زيارة الصدر للمرجعية .. وماذا بعد ؟
سيف الحمداني
في عراق تتقاطع فيه السياسة بالدين، وتُكتب فيه التوازنات الكبرى بالحبر والهيبة، لا تمر زيارة زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر إلى المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف مرور الكرام، ولا تُقرأ كطقس ديني عابر أو لقاء شخصي عادي. إنها في جوهرها فعل سياسي وديني مركّب، مشبع بالرمزية، ومحكوم بميزان حساس من التوقيت والسياق والمغزى.
في كل مرة يظهر السيد الصدر في أروقة الحوزة العلمية العليا، أو يعلن عن لقائه بمراجعها، تهتز جدران التحليل السياسي، ويتساءل الجميع: ما الرسالة؟ ولمن؟
المرجعية : الثقل الصامت في المعادلة
منذ عام 2003 وحتى اليوم، بقيت المرجعية العليا في النجف، ممثلة بسماحة السيد علي السيستاني، تمارس حضورها بنمط مختلف عن أنماط التدخل المعتادة في بلدان أخرى. إنها ترفض الانغماس في تفاصيل الحكم، لكنها لا تفرط بمسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية عن مصير المجتمع والدولة.
وهنا، تصبح كل زيارة يقوم بها السيد مقتدى الصدر إلى المرجعية فعلاً مزدوجًا: اعترافًا بسلطة النجف الصامتة، واستنجادًا برؤيتها حين تشتد عُقد المرحلة.
زيارة بصوت سياسي خافت
في العلن، قد تبدو هذه الزيارات أقرب إلى واجب ديني، أو تواصل شخصي بين ابن المرجع الراحل الصدر الثاني وأساتذته في الحوزة. لكنها في العمق أكثر من ذلك بكثير. إنها رسائل لا تُقال أمام الكاميرات، بل تُقرأ في الصمت. وربما في لغة الجسد. وربما في أن السيد السيستاني لا يُعلّق.
الرسالة الأولى هي أن التيار الصدري، بكل ما له وما عليه، لا يزال يُمسك بخيط رفيع مع المؤسسة الدينية الأم، وأن الخلافات السياسية لا تمزّق النسيج الروحي الذي يجمع الصدر بالحوزة.
والرسالة الثانية موجهة إلى خصومه في الداخل، مفادها أن الصدر، برغم اندفاعه الجماهيري أحيانًا، لا ينفصل عن "القبلة المعنوية" للطائفة، وأنه حين يشتدّ الخلاف، يعود إلى النجف لا إلى غيرها.
بين التأييد والتوجيه
ما لا يُقال غالبًا هو أن المرجعية لا تعطي "تفويضًا أبيض" لأي طرف سياسي، ولا تصدر "موافقات مكتوبة" على التحركات أو القرارات. لكن مجرد القبول باستقبال زعيم سياسي بحجم السيد الصدر في لحظة مفصلية، قد يُقرأ باعتباره إشارة غير معلنة، أو على الأقل سماحًا بالمراجعة والتأمل، إن لم يكن التوجيه.
هذه العلاقة الرمزية المعقدة تُذكّرنا دائمًا بأن النجف لا تبارك بسهولة، ولا تصمت عبثًا، وأن زيارات الزعماء إليها ليست زيارة ضريح، بل زيارة موقف.
السياق.. هو المفتاح
توقيت زيارة السيد مقتدى الصدر الأخيرة، كما سابقاتها، لا يمكن عزله عن مجريات الواقع العراقي: انسداد سياسي، صراع على النفوذ، تصاعد أصوات تطالب بإعادة تشكيل النظام، وربما سؤال مصيري عن مستقبل "التيار" نفسه بعد انسحابه المعلن من البرلمان.
في هذا التوقيت، العودة إلى النجف ليست خيارًا شعبيًا، بل ضرورة استراتيجية. كأن الصدر يُعيد ضبط بوصلة تياره، أو يُمهّد لتبدل في المواقف، أو يبحث عن قاعدة أخلاقية لخطوة مقبلة.
الزيارة القادمة.. وماذا بعدها؟
يبقى السؤال معلقًا: هل ستكون زيارة الصدر هذه بوابة لتحول جديد في خطابه؟ هل تلقى خلالها إشارات واضحة من المرجعية عن حدود المقبول والمرفوض؟ أم أنها كانت تذكيرًا للآخرين بأن الصدر، برغم كل شيء، لا يزال أقرب من غيره إلى عمامة النجف الصامتة؟
في عراق تتغير فيه المواقف كما تتبدل مواسم الغبار، تبقى زيارة الصدر للمرجعية فصلاً من فصول السياسة العراقية يُكتب بلا بيان، ويُفهم بلا تصريح.