الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الهوية الرقمية الجمعية

بواسطة azzaman

الهوية الرقمية الجمعية

منتصر صباح الحسناوي

 

تصاغ الهوية من الخصائص والسمات والمعتقدات والقيم المميزة التي تُعرّف الشخص أو المجموعة، لكن في عالمٍ انتقالي نعيشه اليوم يتجه بسرعة هائلة نحو التطور التكنلوجي والذكاء الاصطناعي، لم تعد مقتصرة على ذلك إذ باتت تنشأ أيضاً من التفاعل اللحظي في الفضاء الرقمي.  وهو ما يطلق عليه بـ “الهوية الرقمية الجمعية”، ذلك النمط الجديد من الانتماء الرمزي الذي يتشكل بين مجموعة من الأفراد في البيئات الافتراضية، انطلاقاً من اهتمامات مشتركة أو مواقف موحّدة أو مشاعر متزامنة، بغضّ النظر عن الأصل الجغرافي أو الاجتماعي أو حتى اللغة. وعلى الرغم من حداثة المصطلح، فإن “الهوية الرقمية الجمعية” لا تزال غائبة عن المعاجم اللغوية والاصطلاحية العربية الكلاسيكية، نظراً لنشأتها في سياق الثورة الرقمية المعاصرة.

فهي مفهوم مركّب انبثق من تقاطع علوم الاجتماع الرقمي والنفس الجماعي والتكنولوجيا الإعلامية، ولا يزال في طور التشكل النظري.  ويُقابل هذا المفهوم في الأدبيات الغربية تعبير Digital Collective Identity، ويُستخدم للدلالة على نمط جديد من الوعي الجمعي الذي يتبلور داخل الفضاء الافتراضي، ما يجعل من هذا المصطلح ظاهرة ثقافية تستدعي إدماجه في الخطاب الأكاديمي العربي بوصفه أحد أهم تحولات الوعي المعاصر.. هذا النوع من الهوية هو تحوّل بنيوي في مفهوم “الذات الجماعية”، نشأ من رحم وسائل التواصل الاجتماعي، وتَضخّم بفعل سهولة الوصول وسرعة التفاعل، وإمكانية المشاركة اللحظية بالصوت والصورة والكلمة.. أصبحت التغريدة أو الوسم أو مقطع الفيديو، أداة لبناء وعيٍ جمعي يتجاوز الحدود السياسية وينافس مؤسسات الإعلام والدين والتعليم في التأثير على الرأي العام، هي موجات من تسونامي سريعة التأثير دون القدرة على صدها إلا من خلال ركوب الموجة نفسها، وهو ما يحتاج إلى قدرات وإمكانيات متقدمة تتناسب مع ارتفاع خطوط نموها المتسارع.

قابلية التوسع

فما يميّز الهوية الرقمية الجمعية هو سرعة تشكّلها، ومرونتها، وقابليتها للتوسع، فهي لا تحتاج إلى جغرافية ولا تستند إلى نسب بقدر ما تقتات من التفاعل والمشاركة. إذ يمكن لحدثٍ عابر في بلدٍ صغير أن يُطلق نقاشاً عالمياً يخلق هوية مؤقتة أو مستدامة حوله، وفي ظرف أيام قد تتكوّن ذاكرة رقمية حول قضية ما تشمل رموزاً وشعارات وأبطالاً وأعداء وسرديات مؤثرة، دون الحاجة إلى قيادة مركزية أو إطار تنظيمي تقليدي ، لذا باتت تمتلك قدرة “خطرة وإيجابية” في آن واحد على التأثير في العقل الجمعي.

فبما أنها تُبنى على التفاعل اللحظي والانفعالي، فهي قادرة على تحريك الجماهير نحو سلوك جماعي فوري، سواء كان احتجاجاً أو تضامناً أو حتى عنفاً رمزياً. وقد شهدنا حالاتٍ في العالم تغيّرت فيها قرارات حكومية، أو سقطت فيها رموز، أو نشأت فيها حركاتٌ عابرة للقارات، فقط لأن جمهوراً رقمياً تشارك الإحساس ذاته في لحظة مفصلية.. من جهة أخرى، تميل هذه الهوية إلى تغيير أنماط التفكير والسلوك ببطء ولكن بثبات، فالعقل الجمعي المتكوّن رقمياً لا يخضع لسلطة واحدة وإنما ينسج سلطته من تفاعلات التكرار، والسخرية، والتحفيز العاطفي، لتُنتج خطاباً عاماً جديداً يجعله – رغم الفوضويّة – مؤثّراً بعمق، وهو ما يجعله أداة فعّالة في إعادة تعريف القيم أو تقويض العادات الراسخة. في العراق، كان لهذه الظاهرة ملامح واضحة، ولا سيما في سياقات الاحتجاج الشعبي، وأزمات الثقة بالمؤسسات، وانتشار المحتوى السياسي أو الساخر أو في ثقافة الإلغاء. فمن خلال هويات رقمية تكوّنت على تيك توك وفيسبوك وتويتر ويوتيوب…. ، رأينا كيف يمكن لمجموعة شابة أن تخلق سرداً يتحدّى الرواية الرسمية ويغيّر المزاج العام ويُحرج الخطاب السياسي، دون حاجة إلى تظاهر ميداني.

لكن الخطورة تكمن حين تُختطف هذه الهوية من قبل خوارزميات المنصات أو الجهات التي تجيّرها نحو التفرقة أو الإلغاء أو التلاعب بالوعي. فغياب الضوابط الوطنية أو التربوية في إدارة الفضاء الرقمي، يترك هذا الشكل من الهوية عرضةً للتشظي أو التضليل. إن الهوية الرقمية الجمعية ليست بديلاً للهويات الثقافية أو الوطنية، لكنها باتت منافساً جاداً لها في تشكيل الرأي والسلوك. وهي مرشحة، مع تطور الذكاء الاصطناعي وتحسّن أدوات تحليل البيانات، لأن تصبح أكثر استقراراً وتأثيراً. وإذا لم يتم إدماجها ضمن سياسات التعليم والإعلام والتخطيط الثقافي، فقد نجد أنفسنا أمام أجيالٍ تملك وعياً جمعياً جديداً لا علاقة له بما تعتقده الدولة أو ما تقوله المناهج.

إن فهم هذا التحوّل لا يحتاج إلى تنظير بقدر ما يحتاج إلى يقظة؛ فالعالم لم يعد كما كان، والانتماء لم يعد حكراً على من يُولد في مكانٍ ما… وإنما قد يكون ابن اللحظة، وابن الشاشة، وابن التفاعل.


مشاهدات 145
الكاتب منتصر صباح الحسناوي
أضيف 2025/05/10 - 12:18 AM
آخر تحديث 2025/05/10 - 7:40 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 416 الشهر 11665 الكلي 11005669
الوقت الآن
السبت 2025/5/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير