الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
زيارة غير متوقعة

بواسطة azzaman

زيارة غير متوقعة

ظافر جلود

 

لم أكن أتوقع مجيئه مع هذا الزحمة والتدافع مع الزائرين خاصة الشباب منهم ، سبقته في المقدمة للدخول إلى سجن الخاصة مع جوقة النساء والدتي التي حملت ما يمكن أن تحمله من زاد وخبز وفاكهة لتقدمه لولدها في معتقله بسجن الخاصة في أبو غريب ، وكانت قبل هذا الصباح الباكر قد ذهبت في مساء اليوم السابق إلى زيارة الإمام الكاظم ، واشترت لي هذه الفاكهة من أسواق الكاظمية لأنها كما تقول بأنها مباركة ويمكن حينما أكلها سوف تمنحني البركة والفرج من هذا السجن البغيض ، أمي جاءت من أقصى الجنوب قبل يوم من هذه المواجهة واستراحت قليلا في داري لتنام مع أطفالي وتحتضنهم لتشم فيهم ريحه والدهم ، كانت دموعها لم تتوقف طيلة تلك الليل لذلك كانت عينها محمرتان حينما جاءت لي للسجن .

وضعت ما كانت تحمله ثم التصقت بي تعانقني بشدة أحسست بضربات قلبها تزداد سرعة في خفقانها، لم تكن تريد أن تتركني كان هذا أول لقاء بيننا بعد مضي أكثر من ستة أشهر من اعتقالي، قبلت يدها ثم رأسها وأجلستها في خيمة صغيرة في الساحة الكبيرة للسجن التي امتلأت بالخيم الكبيرة منها والصغيرة، خيمتي كانت لزميل لي في السجن وقد شطرتها نصفين بيني وبينه، كان هو أيضا استقبل عائلته المكونة من زوجته واثنان من بناته لا تتجاوز أعمارهن عن خمس سنوات، كان خالد من سكنه مدينة بغداد لكن أصوله من تعود إلى مدينة النجف الأشرف وهو من خريجي معاهد المختبرات الطبية.

كان عيون أمي تفيض بالدموع ، لكني كنت أطمأنها بأنني سوف أتحرر قريبا من هذا السجن ، كانت تعتقد في سريرة نفسها باني ربما أكون وحيدا في زنزانة ، أو حتى مع عدد قليل من السجناء ، لكنها تفاجأت بهذه الأمة المقيدة تحت قانون تجريم الإنسان في قوله أو انتماءه أو جنسه وربما شكله ، لان النظام كان يخاف ويرتعب من مجرد كلمة تقال نقدا بحقه ، لذلك هون بعض الشيء عليها ، وراحت تساءل عن كل واحد يقترب منا عن سبب وجوده في الخاصة ، في هذه الأثناء كان هناك ضجة وزحمة أصوات خارج الخيمة الصغيرة التي كنا فيها مجتمعين ،ضحكت أمي وهي تنظر اللي دون استغراب ، كانت مشاعري اتجاهها كبيرة ، وحينما ضحكت فان السرور قد أنعش قلبي وبدني ، لان هذه الابتسامة العفوية التي صدرت عنها كانت بمثابة انتصار للغة الحب على لغة الإقصاء والعبودية والظلم والقهر . التفتت أمي لي لتقول:

- عندك ضيف عزيز ، جاء لزيارتك.

- عزيز من ؟

- دع ذلك للمفاجأة ، هو أراد أن يفاجئك في هذا المكان.

وهل يحتاج سجن أبو غريب مفاجأ يا أمي؟ قلت لها ذلك، وأنا أحاول أن انهض من مكاني لاستقباله في الخيمة.

- قالت الوالدة: يبدو انه مشغول باهتمام السجناء وزوراهم به.

في قرارة نفسي توقعت أن يكون هو، لقد عرفته شهما نبيلا منذ أن عملا معا في مجالات عدة كان شوقي للقائه كبيرا لأنه يحمل الكثير من التفاصيل عن اعتقالي والأشخاص الذين أسهموا في تسهيل مهمة المخبرين للقبض علي.

لابد أن اذهب إليه ، قلت ذلك للوالدة ، لكن وقبل أن انطق دخل هو بقامته المنتصبة وابتسامته التي لا تغيب عن محياه ، وقبل أن انبس بكلمة احتضني بقوة ، أحسست بدفء دموعه التي ترقرقت وتساقطت فوق خدي، كانت كفوفه العريضة لا تزال تمسك بيدي ، كان الجو بارد جدا ، لكني تلمست حرارة قلبه التي أطفأت هذه البرودة الممتدة إلى أعماق الخيمة ، كان جسدي يرتعش ليس من برودة الجو ، بل من لحظة هذا الانطفاء العفوي بين جسد تحمل أوجاع سياط وقسوة تعذيب غرف الأمن العامة المظلمة الموحشة وزنزاناتها الباردة الجافة التي تتراقص فيها الجرذان حيث انك لا تستطيع أن تميز بينها وبين المخبرين القساة ، أنهم متشابهون في وحشية الخوف والرعب .نفس الأنوف والعيون .

- سألته: كيف تجرأت يا سامي ؟

ضحك طويلا، ثم قامت زوجتي وأمي بمد سجادة طويلة لكي تكون مكانا لجلوس الضيف في هذه الخيمة الصغيرة.

التفت لي جيدا وبدا ينظر طويلا، وكأنه يكتشفني لأول مرة.

- كثيرون من أصدقائنا كان يحذرونني من سجن الخاصة ، قال ذلك وهو يضع أبنتي الكبرى بين أحضانه.

- قلت له: ومعهم حق في وضع كهذا.

- لكني قررت أن أزورك مهما كانت النتائج، لأنك ليس بمجرم أو قاتل.

- لكن تهمتي سياسية، وهذه ربما اخطر وأكثر أهمية من القاتل في وجهة نظر.

وقبل أن أكمل تدخلت أمي بالحديث لكي تقطع عنا الاستمرار به، مدركة خطورة الموقف، وفي هذه الأثناء كان السجناء وزوراهم قد تجمعوا عندي للسلام على صديقي الفنان سامي قفطان، كان محض إعجاب واهتمام من قبل الجميع بما فيهم السجانين، الذين حمل بعضهم كاميرات للتصوير معه خارج أسوار السجن بوعد منه، لان التصوير داخل السجن يمنع منعا باتا.ابتسم صديقي خالد الذي يشاطرني الخيمة وهو يشاهد هذا الفنان الذي يعرفه من خلال الشاشة فقط وقد جالسه بالقرب منه، بينما راح الأصدقاء الآخرون يتوافدون على خيمتي.

- قال خالد: ربما نحن محظوظين بهذه الزيارة، لكن والحق يقال، انك شجاع وتمتلك من الوفاء الشيء الذي يفتخر به أي صديق. وظافر ليس صديق، بل أخ.

- صدقني يا سيدي ، وأنا كنت اعمل في جهة خدمية وقدمت الكثير الكثير للأصدقاء والأقارب الذين يمتنعون اليوم من زيارتي ، لا بل حتى من زيارة عائلتي الصغيرة في مدينة النجف والسؤال عنهم.

- كلامك واضح وصريح، لكن أيضا، ليس الكل. قال ذلك سامي، وسكت برهة، ليسود الصمت كل الجالسين، فتقطع هذا الصمت الوالدة وهي تقدم للضيف بعضا من الفواكه.

- قالت له: لابد وانك جائع، السفرة طويلة من بغداد إلى أبو غريب.

أبتسم سامي واخذ من الوالدة قطع الفواكه، وبدا بالأكل، لكنه لازال ينظر لي بعين فاحصة سائلة، كان سامي يتفحص المكان جيدا فهو كما اعرفه دقيق في تفاصيله، لا تفوته شاردة أو واردة، يعرف ما يدور حوله، لكنه يبالغ بالصمت كونه يعرف أن النظام شديد القسوة، حتى انه كان يبتعد بالحديث عن هذه المواضيع، لأنه يحذر من هذه الأجهزة التي تتعقب كل من تشك به.

تعرفت على الفنان سامي قفطان الذي كانت بداياته عام 1960 مشتركا في فيلم يد القدر، للمخرج كامل العبدلي ثم بعد ذلك في أكثر من 25 عملاً سينمائياً وعشرات الإعمال المسرحية والتلفزيونية، من خلال عملي الصحفي، كان سامي فتى شابا متألقا سواء في المسرح أو التلفزيون، ونجما جاذبا جريئاً وصريحاً في كلامه وفنه، يهتم بالشخصية التي يجسدها حتى وان كانت بسيطة فنراه يبحث عن جذورهـا كي يقدمها على نحو مؤثر، ومع انه لم يتخرج من معاهد الفنون أو يتعلم أكاديمية وحرفة التمثيل والإخراج ، لكنه استطاع أن يتجاوز الكثير من خريج هذه المعاهد وبات رقما مهما في الإنتاج الثقافي والفني في الفرقة القومية للتمثيل التابعة لمؤسسة السينما والمسرح الذي يعمل فيها موظفا ، كانت نجومية.

كان في سريرة سامي قفطان وغيره من الفنانين القادرين على التعبير والتوجيه من خلال خشبة المسرح يكنون الكره للنظام الحاكم، لكن الخوف من البطش والتعذيب والإقصاء يقف حاجزا أمام طموحاتهم للتغيير، لاسيما بعد إن قام النظام بإعدام الفنان صباح السهل المنحدر من مدينة الشطرة جنوب العراق بعد ان حرر ضده قضية تتهم.

فقد تم إلقاء القبض على صباح محسن محمد والمعروف بالاسم الفني صباح السهل. من قبل جهاز الأمن الخاص، عام 1993، ثم أودع في سجن المخابرات، وسبب التهمة هو تهجمه على شخص الرئيس وعائلته والقيادة السياسية. وهي واحدة من قصص إحدى ضحايا أبشع نظام استبدادي عرفه التاريخ الحديث والقديم. فلم تسلم من شره وظلمه، شرائح المجتمع كافة، وهذه المرة وقع بطش النظام على أحد الفنانين المعروفين لقطع لسانه وذاكرته بعد أن حكمت المحكمة عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت استناداً لأحكام المادة” 225 “من قانون العقوبات في 3 / 5 / 1993ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة. لذلك طويت صفحة الفنان السهل بشكل سريع وسهل أيضا، ليس هذا فحسب، بل مصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة، دون إي مبرر قانوني، لشخص انتقد بالكلام فقط نظام كامل قمعي ظالم.

أدركت بعد أن أمضينا وقتا في جلسة تميزت بالهدوء وبعض الحكايات التي مرت بالفنان سامي من خلال ذكرياته الغنية بالإحداث والقصص المثيرة مع الجمهور والكاميرا، كان سامي نموذج نقي لإنسانيته العذبة، كنت اقرأ في عيونه هذا الصدق في الحديث، لكن في الجانب الأخر كنت احرص أن يذهب إدراجه ويعود من حيث أتى خاصة بعد أن تجمهر عدد من السجناء وعوائلهم

عند باب خيمتي، كنت لا ارغب أن يطول به الجلوس في سجن الخاصة لكيلا يكون فريسة للمتصيدين من عيون الأمن والمخابرات الذي يعج بهم المكان.

أشرت على سامي بان عليه أن يودعنا لان الطريق إلى بغداد من أبو غريب سوف يزدحم بعد خروج الزائرين من السجن الكبير، كما عليه أن يتخلص أيضا من الزحمة التي ستبدأ بعد ساعات عند الأبواب، لم تكن هذه رغبتي مطلقا، لكن الضرورة والحاجة دفعتني للإصرار والإلحاح عليه.

وقف صديقي السجين خالد بعد أن عرف بمرامي وقصدي، وطلب من سامي أن يرافقه نحو الباب الكبير للسجن، أعجبت الفكرة سامي بعد انو وجد في قصص خالد الكثير من التسلية، اتجهنا الثلاثة نحو الممر الطويل، وعند نقطة معينة عانقته بحرارة وودعته، فيما بدا عليه التأثر من هذه اللحظة.

* من قصص كتاب “ زائر المساء اليومي “ مذكرات سجين سياسي للمؤلف نفسه

 الصادر عن دار لندن / المملكة المتحدة


مشاهدات 97
الكاتب ظافر جلود
أضيف 2025/04/12 - 1:42 AM
آخر تحديث 2025/04/12 - 10:02 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 1091 الشهر 11472 الكلي 10592119
الوقت الآن
السبت 2025/4/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير