الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حكايات أبي الرطبة

بواسطة azzaman

   رواية قصيرة جدا

حكايات أبي الرطبة

هادي المياح 

 

"متعب أنا يا أبي. ورأسي يكاد يجف..احتاج إلى حكاية من حكاياتك الرطبة."

 

                                     الفصل الأول

في مساء شبه غائم ، كان أبي متعطشًا لسردِ حكايته. رأيته يتقلب في جلسته عدة مرات، وكانت عيناه تتقدان كجمرتين وهو يعدّ نفسه لذلك. كلما اقترب من الذروة، توقفت أنفاسه لثانية، وكأنه يريد أن يزرع في قلبي نفس الانتظار الذي عاشه يومها.

كانت شرفة منزلنا الأمامية مسرحاً لطقس لا يتكرر إلا مع أبي. نتبادل فيه الأدوار: هو الراوي العتيق، وأنا الصائد الجائع للكلمات، الذي ينتظر دوره ليحتل موقعه. لكني سأترك المجال والإنصات باحساس الطالب الذي مست أصابعه الرّحلة لأوّل مرة، لأرافقه في رحلته الغريبة..

آنذاك، لم يكن الجو حارقاً كالمعتاد، بل كان رطباً بنسماتٍ تحمل رائحة النخيل البعيد

أبي يدخن سيجارته العاشرة ببطء، كأنه يعدّ دخانها وقوداً للحكاية. أنظر إلى يديه "البروليتاريتين" المُتشققتين من العمل، وأتخيلها تحمل خريطة العالم

في ذلك المساء بالذات ، كان أبي قد استعد  تماما كي يقص علي ما جرى له في رحلة الصيد الغريبة الى واحة  في عمق الصحراء.لا يخطر لأحد أن يغامر بنفسه ويذهب إليها. خاصة وأن كل من ذهب لم يعد.. كانت الواحة مأوى  للحيوانات المفترسة والكائنات الغريبة.

                      الفصل الثاني

 في الليلة الأولى: تحدث أبي:

" يشاع أن هناك في الواحة ، بحيرة واسعة، تتنفَّس عند الفجر، وأسماكها تهمس بأسماء الضائعين... بقيت طوال الطريق أَصخْ السمع، لأقف على حقيقة ما يشاع.

قطعت مسافة خمسة أميال تقريبًا، سيرًا على الأقدام ، أحمل على أكتافي عدة الصيد ، أوتاد و آله في رأسها خمسة نبال حادة تدعى "الفالة ". وعصا خشبية ملساء، غليظة نوعما، لا يتجاوز طولها ثلاثة أذرع، تحمل في أحد طرفيها أُكرة بحجم مناسب من القير، تصلح  في العراك والدفاع عن النفس،   هي "المگوار" .

في رحلتي الاولى تلك، وصلت إلى الواحة عند الفجر

وقفت على حافة البحيرة ، أخليت عني كل الأثقال ما عدا سلاحي . لم تمض سوى ثوان قليلة ، شعرت أن البحيرة بدت تسحبني نحوها،عدة خطوات والامس مستوى الماءالماء في البحيرة، كان ساكنًا كالزجاج. وفجأة...هنا يخفض أبي صوته أكثر، فاقتربْ منه حتى أسمع همسه

"ظهرت سمكة عملاقة، بحجم طفلٍ صغير! قفزتْ من الماء وكادتْ تضربني بذيلها. ذيلها وهو يشق الماء أشبه بصوت محرك قارب سريع. أمسكتُ 'المگوار' وهجمت عليها، لكنها اختفت في الأعماق. وبينما كنت أحدق في الدوائر التي أحدثتها السمكة في الماء، بعد أن غاصت السمكة العملاقة في الأعماق، ساد صمتٌ ثقيل... صمتٌ أشبه بذلك الذي يسبق عواء الذئاب عند المغيب. ثم أصابتني قشعريرة ليس بسبب برد المساء - أصابني الذهول: "هل هذا ممكن؟!"  

يهز رأسه ويقلب كفّه: "البحيرة فيها أسرار... وفي ليلة اكتمال القمر، يسمع الصيادون أصواتاً كأنها غناء!" بعد أن فقدت السمكة، ظننتُ أن المغامرة انتهت... لكن الصحراء كانت تخبئ لي اختبارًا آخر".

                 الفصل الثالث

 

في الليلة الثانية، عندما هبطت من غرفتي في الطابق الأول، في طريقي إلى الشرفة "المسرح" ، رأيت أبي متكئاً كعادته على العمود الرخامي، يدخن. جلست قبالته، استمع إليه:

"في طريق العودة من البحيرة، حملت 'الفالة' بيدي اليمنى، و سمكة كبيرة باليسرى. فجأة... سمعت صوت ورق الأشجار يتحرك خلفي

يتوقف أبي، يلتقط أنفاسه كأنه يعيش اللحظة من جديد. عيناه تضيقان، ثم يهمس

"التفتُ... فإذا بذئب أسود يقف على بعد خطوات. عيونه حمراء كالجمر. لكن الغريب أنه لم يهاجمني. فقط حدّق بي، ثم ولّى هارباً." 

أبي يضحك

"أتعلم لماذا هرب؟ لأنه رأى في عينيّ شيئاً أخافه أكثر من 'الفالة'... رأى رجلاً لا يخاف الموت." !

                                 الفصل الرابع

 

في المساء،اتصل بي أبي وقال: هناك حكايات،لا تحكى في النهار سنتركها إلى الليل.

وفي ساعة متأخرة من الليلة الثالثة، التقيت بأبي ،عند الشرفة كالعادة. حيث موعدنا مع حكاية جديدة، وجدته يدخن حتى احترقت السيجارة بين أصابعه كزمنٍ لم يُستثمر، وحين سقط أمامه رمادُ سيجارته دون إرادته وعلى نفس البقعة ، عرفتُ أن الحكايةَ هذه المرة ستكون مختلفة.

قرر أبي أن يحكي لي القصة التي كان يؤجلها دائماً

"ذات مرة، واجهتُ شيئاً ليس ذئباً ولا سمكة... بل يقال أنه رجل الظل." 

"من هو؟!"

"كائنٌ أسطوري يُقال إنه يجوب الصحراء عند منتصف الليل. يظهر كظلٍ بلا وجه لشبح ، ويختفي إذا نظرت إليه مباشرة. قابلته عند عودتي في منعطف الطريق الرملي... شعرت ببردٍ يجمد عظامي. أمسكتُ 'الفالة'، لكن يدي ارتعشت. حينها... سمعت صوتك في رأسي

 -صوتي؟

"نعم. صوت طفولتك يصرخ: 'أبي ارجع!' واختفت الرؤيا--كان أبي يتجنب نظري حين ذكرها... كأنما يخشى أن أرى فيها حيلة ما--. منذ ذلك اليوم، علمت أن بعض الكائنات المفترسة تخاف من الحب أكثر من الأسلحة." 

هههه

أحسستُ أن في كلامه فجوات... لكن فرحتي بالحكاية كانت أكبر من شكّي في عناصرها المبتكرة ربما.

-أبي هل تريد أن تصرّف عليّ أحلامك! ضحك أبي ايضا وقال:

اذا اردت ان تكون كاتبا ،عليك بتوظيف أحلامك بشكل جيد! هل تظن أن مغامراتي في الصحراء تُحاك هكذا دون أي تزويق لفظي أو إضافات كإضافة الملح على الطعام؟

                             

         الفصل الخامس

 

حكاياتنا لا تنتهي.. الآن، وأبي يكبر يوماً بعد يوم، قلّت حركته كثيرا وصار ينام غالبية وقته في الشرفةوأصبحت أنا أدوّن حكاياته في دفترٍ صغير. في أحد الأيام، سأحكيها لأطفالي بنفس الأسلوب... وأختم بقوله

"العالم مليء بالعجائب، لكن أعظمها هي تلك التي نصنعها بأنفسنا."  العبارة التي جعلتني أتوقف كثيرا عندها واكتشف أن أبي ربما كان يبتكرها كدرس ثمين لأولاده! أنه ذكي حتى في ابتكاره! وإذ أني لم أجرؤ على مصارحته بذلك ،إلا أن النهاية التي وضعها ، كانت تكشف حقيقة واحدة هي كم أنه كان شجاعا!

"حين مات أبي، وجدتُ 'الفالة' تحت فراشه... مغطاةً بفراءٍ أسود. لأول مرة اكتشف ذلة، هل هو فراء الثعلب؟ لم أكن بحاجةٍ لسؤاله إن كانت الحكايات حقيقية. فالذئب الذي ترك بصماته على السلاح كان إجابةً كافية."

في أول رحلة صيد لي بعد رحيله، رأيتُ الذئبَ عند نفس الشجرة. لم يهرب... بل أومأ لي كأنه يعرفني. حينها فهمتُ: أبي لم يقل غير الحق... لقد جعلني أرثُ عدوه!

كنت أحرص على الاحتفاظ بالدفتر الصغير الذي فيه كل الحكايات، كنت قد أسميته "دفتر أبي".  لكني لم اجد الحكايات كباقي ذكرياتي الكثيرة التالية التي ملأت صفحاته وتبخرت. كان الدفتر فارغا إلا من جملة واحدة : الحكايات الحقيقية لا تدون هنا، بل تحفظ عن ظهر قلببقيت افكر فيها كثيرا، واعيد السؤال مرات ومرات، هل ان الدفتر سحريا حتى يميز الحكايات الحقيقية عن غيرها؟ لم أتذكر أني تركته عند أحد ،ولا حتى أودعته عند أبي غير مرة واحدة، وجدته مطويًا في جزء من الفراء الأسود، في فراشه.

قال لي أبي قبل موته: 'إذهب إلى الواحة في ليلة اكتمال القمر'. حين ذهبتُ، رأيتُ ظلّي على الماء... وكان بحجم السمكة العملاقة. في الأفق، عوى ذئبٌ. لم أعرف إن كان يحيّيني...

الآن حين يُعوّي الذئب ليلا، يهمس الجيران: 'إن الغائب سيعود ليحكي حكايته'. وأنا أبتسم... لأنني الوحيد الذي يعرف أن الذئبَ يعوي كلما قرأ أحدٌ دفترَ أبي!

 

.*************************************.

تحياتي ومحبتي

سرد مبهر، تكثيف حد العصر،ترميز اغنى المعنى وجوع اللفظ،ترك حيزا لاشراك خيال المتلقي لنسج نص ثان.

ولكن هل النص يمتلك اشتراطات الرواية من حيث تعدد الشخصيات حيث كان الحوار بين الاب والابن.

ارى ان النص يقترب كثيرا من القصة القصيرة اكثر من اقترابه من الرواية القصيرة جدا، حتى من حيث عدد الكلمات  بمايزيد على الف كلمة بقليل،اتفقت اغلب الاراء ان لاتقل كلماتالرواية القصيرة جدا عن 3000 كلمة ولا تزيد على 5000 كلمة الا قليلا نزولا او صعودا...

اذا تسمح لي اقترح ان تضيف شخصيات ثانوية لاكتمال شرط تعدد الشخصيات وتغني الحوارات  وتزيد عدد الكلمات، واغناء تعدد الاماكن باكسابها  ما يميزها كالواحة، الصحراء، البيت ...الخ

(المكوار)، و(الفالة) لا ارى داعي لتوصيفها في متن النص، يمكن توصيفها في الهامش للتعريف لمن لايعرفها...

يمكن فك بعض طلاسم السرد ليسهل التأويل والتحليل للمتلقي غير المختص...

سرني كثيرا محاولتكم الرائعة في كتابة الرواية القصيرة جدا وانت اهلا لها  لما تمتلك من ثراء لغوي وخيال باذخ الثراء ...

اخي واستاذي العزيز لكم القرار في الاخذ بملاحظاتي او اهمالها فليس هناك ضوابط حديدية للابداع،انه اجتهاد وليس الزام

لكم مني كل الحب والتقدير

 


مشاهدات 224
الكاتب هادي المياح
أضيف 2025/04/09 - 3:33 PM
آخر تحديث 2025/04/12 - 10:07 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 1085 الشهر 11466 الكلي 10592113
الوقت الآن
السبت 2025/4/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير