الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من النشر إلى التجنيد.. مواقع التواصل الإجتماعي والغزو السيبراني

بواسطة azzaman

من النشر إلى التجنيد.. مواقع التواصل الإجتماعي والغزو السيبراني

عصام البرّام

 

لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتعبير أو التواصل بين الأفراد في عصرنا الرقمي الراهن. بل أصبحت ساحة معارك غير مرئية، تُدار فيها الحروب الحديثة بادوات جديدة، وفي طليعتها ما يُعرف بالغزو السيبراني، ولم يعد هذا المصطلح محصوراً في آختراق الانظمة أو سرقة البيانات، بل تعداه ليشمل السيطرة على العقول، والتأثير على الوعي الجمعي، بل وحتى تجنيد الافراد في جماعات مسلحة أو متطرفة عبر أدوات النشر الرقمية.

سلاح ذو حدين من التأثير

الى التجنيد

شكلت منصات فيسبوك و(X) وإنستغرام ويوتيوب وغيرها تأثيراً كبير، التي أحدثت ثورة غير مسبوقة في حرية التعبير وتبادل المعلومات، لكنها في الوقت ذاته، فتحت الباب واسعاً أمام قوى خفية لإطلاق حملات تضليلية، ونشر خطابات الكراهية، والتلاعب بالمشاعر الجماهيرية، بهدف خلق حالة من الفوضى أو الاستقطاب الحاد داخل المجتمعات. لقد شهدنا في العقود الاخيرة نماذج متعددة لما يُمكن تسميته ب(الغزو الناعم)، حيث تتحول هذه المنصات الى أدوات دعاية غير رسمية تنفذ أجندات دول أو جماعات إرهابية، دون إطلاق رصاصة واحدة، وإنما عبر تغريدة أو فديو أو رسالة عبر تطبيق مشفّر.

لعل أخطر ما يمكن الحديث عنه في هذا السياق  هو تحول بعض منصات التواصل الى بوابة عبور نحو التجنيد، لاسيما من قبل الجماعات المتطرفة أو الارهابية،  (كداعش) و(القاعدة) وسواها. فقد أظهرت تقارير آستخبارتية عديدة من دول العالم، أن آلاف الشباب تم تجنيدهم الكترونياً، دون أي تواصل مادي مع الجماعة، بل من خلال حملة متقنة من التلاعب النفسي، تستهدف الحالمين والغاضبين والمهمشين، أو حتى المغرر بهم بآسم الدين والعدالة أو نزع الحقوق التي سُلبت منهم..الخ. تبدأ العملية غالباً بمحتوى يبدو للوهلة الاولى بريئاً أو مؤثراً يأخذ الجانب الانساني بأثارة العواطف لدى روح الشباب المندفعة، وذلك من خلال فيديو عاطفي عن معاناة المسلمين أو منشورات تتحدث عن الهوية أو انتقادات للفساد والظلم. ثم يُستدرج المتابع تدريجياً نحو غرف الدردشة الخاصة، أو تطبيقات منصات التواصل الاجتماعي بآختلاف أنواعها، حيثت بدأ مرحلة (غسل الادمغة) وتعزيز مشاعر الغنتماء، وصولاً الى التنفيذ أو السفر للمشاركة في الجهاد بآسم نصرة الدين، والدين منهم براء.

الحرب النفسية الاكترونية

 الخصوم اليوم لا يهاجمون الحدود، بل يهاجمون العقول. وهذا ما يُعرف بالحرب النفسية الالكترونية. الهدف ليس فقط التجنيد، بل زعزعة الاستقرار النفسي، وزرع الشكوك، وبث الفتن. ويمكن ملاحظة ذلك في الحملات المنظمة التي تُشن فجاة على مؤسسات أو شخصيات عامة، من خلال ما يُعرف بالجيوش الالكترونية أو ما يصطلح عليه بالذباب الالكترونين الذي يملأ الفضاء الرقمي برسائل مكررة، وتعليقات سامة، قد تؤدي الى نتائج واقعية مؤلمة. ولا تقتصر هذه الحرب على الأفراد، بل تطال حتى المؤسسات والدول، من خلال اختراق المنصات الرسمية، أو نشر إشاعات تمس الامن الوطني والقومي للبلاد، أو خلق أزمات دبلوماسية وهمية، كما حصل في عدة حوادث إقليمية في السنوات الماضية.

من يقف وراء الكواليس؟ ضعف الرقابة أم صعوبة المواجهة

قد يكون السؤال الأهم هو، من يدير هذه الحملات؟ هل هي دول؟ أم جماعات منظمة؟ أم أفراد؟ الحقيقة أن كل هذه الاحتمالات واردة، فبعض الدول وظّفت ميزانيات ضخمة لتأسيس وحدات الكترونية هدفها التلاعب بالرأي العام، داخلياً وخارجياً. وبعض الجماعات الارهابية طوّرت أدوات متقدمة لتجاوز الرقابة، وتجنيد مختصين بالتقنيات الرقمية ضمن صفوفها. بل إن بعض الهجمات السيبرانية قد تنطلق من غرف مغلقة يديرها مراهقون، تحركهم دوافع أيديولوجية أو حتى مالية. لذا ينبغي الحيطة والحذر، ووجود ثقافة أو أطلاع لدى المتصفح والمتابع لما يحيط العالم من تحديات جمة.أحد التحديات الكبرى في هذا الميدان هو ضعف الرقابة الفعّالة على المحتوى المنشور عبر الانترنت، وصعوبة تتبع من يقف خلف الحسابات المجهولة أو المتخفية. فالتقنيات الحديثة تسمح بإخفاء الهوية، وتجاوز أنظمة الحجب بسهولة، ناهيك عن الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي في إنتاج محتوى مزيف يصعب تمييزه عن الحقيقة، مثل الفديوهات العميقة التي قد تُستخدم لتلفيق تصريحات مزورة أو أحداث غير حقيقة. ورغم الجهود التي تبذلها بعض المنصات الكبرى في تقنين المحتوى، إلا أن هذه الجهود غالباً ما تأتي متأخرة أو غير كافية، لأسباب قانونية أو تجارية أو حتى سياسية.

المواجهة ليست تقنية فقط، بل تربوية وإعلامية وثقافية، ومن أبرز الخطوات التي يجب العمل عليها: 1/ رفع الوعي الرقمي، وذلك من خلال حملات تثقيفة تعلّم الناس كيفية التحقق من المعلومات، وعدم الانجرار خلف العناوين المضللة أو الحسابات الوهمية. 2/ إنشاء قوانين واضحة، فمن خلال مكافحة الجرائم الالكترونية، وتغليظ العقوبات على كل من يروّج للكراهية أو العنف الرقمي . 3/ تدريب الكوادر الامنية، على تقنيات الرصد والتحليل السيبراني، بالتعاون مع خبراء في الذكاء الاصطناعي وأكاديميين في علم النفس. 4/ تشجيع منصات التواصل على تبني سياسات صارمة تجاه الحسابات المشبوهة، مع شفافية في الابلاغ والرقابة. 5/ تطوير المحتوى البديل، ويكون عبر دعم الأصوات المعتدلة، وتشجيع الشباب على إنتاج محتوى هادف وجاذب يوازي المحتوى من حيث التاثير.

إن الغزو السيبراني لا يشبه الغزوات الكلاسيكية التي عرفناها في التأريخ، لكنه أكثر خطورة، لأنه لا يُرى بالعين، ولا يُسمع بالدبابات، بل يتسلل الى أذهان الناس وهم في غُرفهم، ويُعيد تشكيل وعيهم دون أن يشعروا. ومن هنا، فإن مسؤوليتنا اليوم كأفراد ومؤسسات ومجتمعات، هي بناء حصانة فكرية ومعرفية، لا تقل أهمية عن بناء جيوش تقليدية. قد  لا نستطيع إغلاق الانترنت، لكن يمكننا أن نُسلّح الناس بالوعي، ليكونوا هم خط الدفاع الأول في وجه هذا النوع الجديد من الحروب.

لقد تغيّر شكل الحروب، وتحوّلت جبهاتها من الخنادق الى الشاشات، ومن الحدود الجغرافية الى الفضاء السيبراني اللامحدود. وما يجعل هذا التهديد أكثر خطورة هو أنه يتسلل الينا عبر أدوات نظن أنها مسالمة، مثل الهاتف الذكي أو تطبيق المراسلة أو منشور على صفحة ترفيهية. هذه الحرب لا تحتاج الى جنود، بل الى متابعين، والى من يشاركون المحتوى دون تفكير، ويمنحون الاعداء نافذة الى عقولهم دون أن يشعروا.

لهذا، فإن مسؤوليتنا المشتركة اليوم، أفراداً ومؤسسات، تكمن في الوعي أولاً، ثم الفعل. الوعي بأننا لسنا فقط متلقين، بل مشاركين في تشكيل الفضاء الرقمي. كل إعجاب، مشاركة، تعليق، أو إعادة نشر، قد تكون سهماً في معركة لا نعرف حتى أننا نخوضها. أما الفعل، فهو التزام أخلاقي ومعرفي بمراجعة ما نقرأ وننشر، وتشجيع خطاب عقلاني، وتقديم القدوة لأجيال تنشأ اليوم في بيئة رقمية مشبعة بالمعلومات، ولكنها عطشى للتمييز بين الصادق والزائف، بين الحرية والفوضى.

الغزو السيبراني لا يُهزم بالحُجب فقط، بل بالتفكير النقدي. والتجنيد لا يُمنع بالقوة وحدها، بل ببناء وعي يرفض الانزلاق الى متاهات الكراهية أو الوعود الكاذبة. وبين النشر والتجنيد، تبقى الكلمة المسؤولة، والمعلومة أمانة، ومنصات التواصل ميداناً علينا أن نُحسن آستخدامه، قبل أن يتحول الى أداة ضدنا.

 

 


مشاهدات 140
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/07/23 - 4:32 PM
آخر تحديث 2025/07/25 - 1:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 45 الشهر 16260 الكلي 11169872
الوقت الآن
الجمعة 2025/7/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير