الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تأملات في نصوص مجموعة " مشاهدات مجنون " لحميد الحريزي


                     " النّقْمَةُ المُقَدّسَةُ "

تأملات في نصوص مجموعة " مشاهدات مجنون " لحميد الحريزي

يحيى السماوي 

 

( .. أنا شاهد عليها

تحت ظلال رماح القصب الصفراء

ضفادع لها فحيح، تزدرد الأفاعي

أنا شاهد عليها

خراف عمياء تحرس الراعي – قصيدة " مشاهدات مجنون من عصر العولمة " )

... و " النقمة المقدسة " هي السمة المركزية الغالبة على مجموعة " حميد الحريزي " . تتجلى هذه السمة صارخة عارمة ليس من أول قصيدة في المجموعة حسب ، بل من أول مقطع في هذه القصيدة والذي استشهدت به الآن . نقمة كاسحة تعبر عن غليان انفعالي هادر يكتسح كل شيء .. الناس بانمساخها السلوكي .. والحياة بتقلباتها الجذرية المنافقة .. والقيم والعلاقات بانفساح معانيها الأصيلة .. والموجودات طرا بانحطاطها الوجودي :

أنا شاهد عليها

تحت ظلال رماح القصب الصفراء

ضفادع لها فحيح، تزدرد الأفاعي

أنا شاهد عليها

خراف عمياء تحرس الراعي – القصيدة نفسها ) .

.. وحميد حين يربط هذا التدهور البشري والحياتي المرعب بالعولمة فهو يعبر عن وعي دقيق بما أحدثته هذه الثورة الماحقة في عالم اليوم من تفجرات جاء أغلبها سلبيا رغم المنافع العظيمة التي لا تُنكر .. يعبر عن وعيه الدقيق هذا من خلال رفع سبابة الإتهام بوجه مجتمع أساء ، بكل جهاته المرجعية ،  فهم طبيعة هذا المد التغييري الذي لا يُقاوم في مجال العلاقات والهوية وتماسك الوجود :

( في قاعات الدرس

يعلمنا فن الخطابة اخرس

ومتسول أعمى

يعلمنا فن ادخار الفلس

وشيخ الحي

يُعلمنا فنون المنكر والرجس – القصيدة نفسها ) .

.. وحين يضع حميد عنوانا مفارقا لقصيدته هذه هو ( مشاهدات مجنون في عصر العولمة ) فإنه يعبر عن هذا التناقض الشامل الذي يسم حياتنا .. تناقض يكاد يودي بما تبقى لدينا من ذخيرة بصيرة نحاكم بها المتغيرات والتحولات إن لم يكن قد أودى بها حقا .. تناقض مربك لا ينفع معه تقييم يأتي من " منطق " وهو يغطس في لجة اللامنطق حتى أذنيه .. أو من عقل وهو يعيش زمن " اللاعقل ".. وهذا التناقض يسم قصائد المجموعة كلها ، بدءا من القصيدة الأولى " مشاهدات مجنون من عصر العولمة " التي استشهدت بمقطعها الاستهلالي ، وانتهاء بالمقطع الختامي من القصيدة الأخيرة " كلاب الروح " :

( تَعَوَدْ

عواءَ  كلابِ

الروح

أو اسكُبْ الدمعَ

لتروي

براعم

الزهور

أو فتش لك  عن  مأوى

بين

ملايين

القبور )

وحين يفتتح حميد مجموعته بجملة " أنا شاهد عليها " فلإنه يمسك بالحقيقة المؤصلة التي يحاول السياسيون العولميون تغييبها ، بل محوها ، وهي أن الشاهد الحق على خراب هذا العصر هو الإنسان الذي يحاول الإمساك بشعلة الشعر .  فهو الجسور الذي يرى عمق الأشياء .. وهو الرائي الذي يستشرف الخراب المقبل .. ولنقل – بلغة حميد – إنه " المجنون " الذي يستطيع محاكمة لاعقل دوامة الانحطاط  والتمزق :

( أنا شاهد عليها

تحت ظلال رماح القصب الصفراء

ضفادع لها فحيح، تزدرد الأفاعي

أنا شاهد عليها

خراف عمياء تحرس الراعي – قصيدة " مشاهدات مجنون في عصر العولمة ) .

وبالمناسبة فإن موقف " الشاهد على عصر " الدمار والمفارقات الوجودية الكاريكاتورية يستمر في أغلب نصوص المجموعة في صورة إعلان شهادة مباشر كما بيّنا ، أو في صورة نقل صورة مدمرة وأمينة لكنها مفزعة لهذا التدهور العجيب الصادم :

( تعالوا هلموا سراعاً

لأخبركم بالنبأ الخطير

لقد تُوّجَ الثورُ أميراً

وصار الحمارُ وزيراً

تعالوا

نزفَ التهاني

وأطيب الأماني

لكلِ أصحابِ الذيول

للكلابِ والقرودِ والعجول

بأمر من فخامةِ الأمير

بأمر العجل الكبير:-

 الكلُ على الأربع يسير

يغطي أستَهُ بذيلٍ جميلٍ

يزيد إذنيه طولا

ويتقن صوتَ النهيقِ

مَن قالَ أنكر الأصواتِ صوتُ ((المدير))؟؟ - قصيدة " إمارة العجول " - ).

ولو تنبهت ، أيها القارئ الكريم ، لطبيعة التساؤل الأخير ومضمونه وشكله التهكمي الصارخ الذي يوظف موروثا قرآنيا لفضح السمة المتردية لجهة مرجعية ، فستجد ، فوق الصياغة التساؤلية التي تتسيد في أغلب نصوص المجموعة :

 

( هل تَعرِفُ سرَّ حِكْمَتِنا

في:-

أِقفالِ فمكْ

هل تُدرِكُ حِكْمَتنا

في تكبيلِ يَدكْ؟؟

يا جاحداً حَقَّنا إنّا خلَّصناك :-

من ذُلِّ السؤالِ

إنّا  أغلقنا أُذنَيكَ وأعطيناكَ

((النَّقال))

خلَّصناكُم من وحشتِكُم

خلَّصناكم من غُربةِ الغربِ

ومَنْ

الوَحدةِ والكَربِ – قصيدة " بركات السلطان " - ) 

.. أو :

( انصهر الجلمدُ

ذاب الفولاذُ

اختلط السائلُ بالسائلِ

اندمجَ

المنقولُ في جسدِ

الناقلِ

ما عدنا

نميز بين:-

المجنون وبين

العاقل

مَــــــــــــــنْ المسؤول ومَـــــنْ

السائل؟؟؟

سلال القمامة زائدة

القمامةُ تُرمى

في التيجانِ

لا حاجة لترجمةٍ

موحدة

لغة الخوفِ

كما الضحكة

الصرخة

 واحدة

مَــــــــــــــــــــــــــــــنْ جمع الجن مع

 الجرذ

لقضمِ

دماغ الإنسانِ؟؟؟ - قصيدة " مطر الدولار " - ).

ويمكن للقارئ أن يقف طويلا عند قصيدة " صديقي الشاعر " التي تجمع في بنيتها بين التساؤل الجارح وموقف الشهادة الدامي الذي يطرحه حميد على لسان سبعة شهداء غدرت أحلامهم .. أقول فوق الصيغة التساؤلية ، فإنك ستجد هذه الروح الساخرة السوداء التي تزرع في روحك أقصى غصص المرارة .. مرارة موقف نفسي " جنوني " متصارع لا تعرف إلى أين تفر فيه : إلى الضحك أم إلى البكاء :

( العالم مشغول بسر عولمتنا

تمثلنا ((الدي)) فهي الرأس

أل((مقراطية)) ذيل ،

 يجرح عزتنا  لا نقبله

نحن علمنا الناس سر الحرف

وسر النهب وسر((الكرف))

فليتوجه كل العالم صوب قبلتنا

فالعالم مشغوف بسحرِ عولمتنا – مقطوعة " الرقم المنحوس " - ).

.. أو :

( ممنوع

احتضانُ

المطرقةِ للمنجلِ

محظورُ

وضع ((الخيارِ)) في الأعلى

و((الطماطةِ)) في الأسفل

ممارسة الموتِ

في الشارعِ مقبول

أما الفرحَ

محظور حتى

خلف الباب المقفل

إياكَ

ان تَبلَّ ريقكَ

بـ ((المنكر)) ..  – قصيدة " بانوراما نزيف القصب " - )

.. وهناك أيضا توظيف الموروث القرآني الذي اشرت إليه سريعا ، والذي يتكرر في أغلب نصوص المجموعة ، وهو توظيف يكتسي بالطابع التهكمي المرير ذاته ؛ طابع يفرضه السياق اللامعقول " الجنوني " الذي نحياه والذي يمزق ثوابت حياتنا ، مهما كانت مقدسة ، بلا رحمة :   

( كيف

لك ولدي

ان تقرا

((باسم ربك الأكرم))

احرقوا القلم وقالوا:-

((اقرأ باسم ربك (( الملثم )) الذي يعلم ((بالألم))

علم الطفل مالا يفهم))

آه لو تعلم

ولاشك انك تعلم

ان ((الإله الملثم))

بدماء أبيك

تيمم

يا طفلي

ممنوع عليك

ان تحلم – قصدة " حقائب الأمير " - ) .

.. أو ، وهذا توظيف غير مباشر أفضل نسبيا :

 

( حصد الموت  شبيبتنا

شابت رؤوس الصبية

أعجاز

نخلٍ نمشي

نَحِلَّ العود وأنكسر

الظَّهرِ

حللنا لكم صيد البر

 وصيد النهر

مباح لكم ذو الريش

وذو القشر

ولكن إيـــــــــــــــــــــــــــــــــــاكم

 أن تصطادوا

    الفقر – من قصيدة " الكأس السوداء "

 


مشاهدات 81
الكاتب يحيى السماوي 
أضيف 2025/07/10 - 1:23 AM
آخر تحديث 2025/07/10 - 5:05 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 209 الشهر 5693 الكلي 11159305
الوقت الآن
الخميس 2025/7/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير