الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
دفعنا .. فماذا بقي ؟

بواسطة azzaman

دفعنا .. فماذا بقي ؟

سيف الحمداني

 

في أول أيام الشهر، يتسلّم الموظف الحكومي راتبه، لكنّه لا يفرح به كثيرًا. يعرف مسبقًا أنه لن يصمد طويلًا، لأن ما كان يسمى «الراتب» تحوّل إلى محطة عابرة بين مصرف الصرف وفواتير لا ترحم. يبدأ التآكل مباشرة: استقطاعات قانونية، أقساط سلف، عمولات، ثم نفقات ثابتة لا مفر منها. لا رفاهية، لا ادخار، لا متّسع حتى لشراء شيء مفاجئ للطفل أو لزيارة الطبيب من دون قلق. ليس في الأمر تهويل، بل وصف مباشر لحياة يعيشها ملايين الناس يوميًا في العراق.

أكثر من خمسة ملايين موظف حكومي يتقاضون رواتبهم بشكل منتظم، لكن انتظام الدخل لا يعني كفايته، خاصة في ظل غلاء مستمر، وخدمات مدفوعة بالكامل. وما يقارب ثلاثة ملايين ونصف من المتقاعدين يتوزعون على درجات مختلفة من الراتب، كثير منها بالكاد يكفي لعلاج الأمراض المزمنة أو لتأمين الحد الأدنى من المعيشة. أما شبكة الحماية الاجتماعية، التي من المفترض أن تضم الفقراء والعاطلين عن العمل، فيبلغ عدد مستفيديها قرابة مليون ونصف شخص، يحصلون على إعانة مالية شهرية وسلة غذائية لا تغني ولا تسمن في واقع معقّد. هؤلاء يمثلون طبقة لا يمكن تجاهلها حين نتحدث عن الحياة في العراق، لكنهم خارج اهتمام التخطيط والسياسة العامة.

لم تعد الطبقة الوسطى في العراق واضحة المعالم. هي الطبقة التي كانت تمثّل التوازن، وكانت عصب الدولة والمجتمع. اليوم، ذابت بين موظف يئن، ومتقاعد يتقلّب بين المرض والتقشف، وكاسب لا يعرف كيف ينهي يومه. الطبقة الوسطى لم تختفِ تمامًا، لكنها تراجعت إلى حد باتت معه أقرب إلى الطبقة الهشة، تتشبث بما تبقى من امتيازات بسيطة في مواجهة صعود طبقتين: واحدة غنية بلا حدود، وأخرى فقيرة بلا سند.

حين يعيش الموظف براتب لا يكفيه، ويتقاضى المتقاعد ما لا يغطي دواءه، ويتلقى الفقير فتات الرعاية الاجتماعية، فإن السؤال لا يُصبح لماذا يشتكون، بل كيف ما زالوا قادرين على التحمّل؟ المواطن العراقي يدفع ثمن كل شيء: الماء والكهرباء والغاز والإنترنت والتعليم والصحة والنقل. يدفع من جيبه، ويدفع من أعصابه، ويدفع من وقته وجهده، ولا يحصل إلا على الحد الأدنى من الأمان، إن وُجد.

هذا ليس إنكارًا لما تبذله بعض الجهات، فهناك رواتب تُصرف، وهناك برامج دعم تُطرح، وهناك سلال غذائية توزع شهريًا على المشمولين بالرعاية. لكنّ الحقيقة الواضحة أن ذلك لا يكفي، لأن تكلفة الحياة تجاوزت ما يمكن احتماله. ليس من العدل أن تُمنح الحقوق وكأنها مِنّة، ولا أن يُطلب من المواطن الصبر بينما لا تُقدّم له الدولة سوى الشعارات والخطط المؤجّلة.

الإنصاف يقتضي أن نذكر بأن العراق ليس بلدًا فقيرًا. بل هو بلد غني بالموارد، بالنفط، بالأراضي، بالعقول. ما ينقصه ليس المال، بل الرؤية، والإدارة، والنية الصادقة في بناء اقتصاد يحمي الناس لا أن يستنزفهم. العالم من حولنا يتغير، والبلدان تبني اقتصادها على أساس أن الإنسان هو الاستثمار الأهم. أما نحن، فنظل ندور في نفس الدائرة: المواطن يدفع، والدولة تكتفي بالمراقبة.

السؤال الذي بات متكرّرًا في المجالس والبيوت، في السوق والمدرسة والمشفى: إذا كان المواطن يدفع ثمن الماء والكهرباء والعلاج والتعليم، وإنْ خُصم من راتبه للضمان والرعاية والتقاعد، وإذا كانت الدولة لا تضمن له حياة كريمة رغم كل ذلك… فماذا بقي؟ وماذا تقدّم له الحكومة؟

ليس سؤالًا من باب الشكوى، بل من باب الحق المشروع.

 

 


مشاهدات 170
الكاتب سيف الحمداني
أضيف 2025/07/10 - 12:50 AM
آخر تحديث 2025/07/11 - 12:08 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 11 الشهر 6240 الكلي 11159852
الوقت الآن
الجمعة 2025/7/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير