العراق حين سقط قلبه وبقي ينبض
مروان صباح الدانوك
مدخل الوجع
لا يُكتب عن بغداد كما يُكتب عن بقية المدن. لأنها ليست مدينة فقط، بل ذاكرة أمة، وديوان شعر، ومهد حضارة، ووجع لا يُشفى. في التاسع من نيسان، لم تسقط فقط جدران المدينة، بل سقطت ثقة العراقي بوعود العالم، وانهارت أسطورة السيادة، وتكشّف زيف الشعارات التي كانت تتغنّى بالتحرير وهي تقصد التدمير.
الساعة صفر، كانت بغداد تنام على صوت الغارات
في تلك الليلة، لم يكن الليل عاديًا. كانت السماء تمطر نارًا، وكان كل بيت يحبس أنفاسه. بغداد التي كانت تُضاء بعبق الحضارات، أُطفئت أنوارها بنار القنابل الذكية. الناس اختبأوا في الأقبية، وأصوات الانفجارات كانت تسابق دقات القلوب. لا أحد كان يعرف ما سيحدث، لكن الجميع كان يشعر أن شيئًا كبيرًا على وشك الانهيار.
حين دخل الغريب، خرجت الدولة
صباح التاسع من نيسان، لم يكن الناس يفتحون نوافذهم ليشمّوا هواء بغداد، بل ليتأكدوا من أن مدينتهم ما زالت على قيد الحياة. ثم دخل الغريب، بسلاحه، بثوبه العسكري، بكاميراته، وبدأت الفوضى. لم يُسقط تمثالًا فحسب، بل أسقط كل ما تبقى من ثقة. الدولة تبخرت، القانون اختفى، وانتشر الحريق في الوزارات والمتاحف، حتى صار البلد كطفل ضائع وسط صراخٍ لا يسمعه أحد.
النهب لم يكن مجرد سرقة، كان إعلان موت الضمير
حين فُتحت أبواب الوزارات على مصراعيها، لم يكن الأمر عشوائيًا. كيف تُنهب وزارة النفط بحماية كاملة، بينما تُترك وزارة التربية للعبث، ويُحرق أرشيف الدولة كأن الماضي كله يُراد له أن يُمحى؟! كيف لم يبكِ العالم على متحف العراق؟ على ألواح سومر؟ على مكتبة تحوي ألف عام من الكتابات؟ لأن السارق هذه المرة كان يملك شرعية مزيفة، وعينًا إعلامية، وسكوتًا دوليًا مريبًا.
الناس تغيّرت، لكن الوجع ظل نفسه
بعد السقوط، لم يعد الناس كما كانوا. بعضهم صار يترحّم على ما مضى، رغم قسوته، لأن الحاضر صار أكثر جوعًا وخوفًا وتمزقًا. العراقي صار يشك في كل شيء: في جاره، في وطنه، وحتى في مستقبله. لم يكن الخراب خارجيًا فقط، بل امتدّ إلى الداخل، فتكسّرت الثقة، وانقسم الوطن، وسادت الطائفية، وأُهينت الكفاءات، وهاجر العقول.
من الذي أسقط بغداد؟
سؤال يجب أن يُطرح بجرأة: هل أسقطها الغزو وحده؟ أم أسقطها ضعفنا الداخلي؟ هل كانت بغداد ضحية العالم فقط، أم ضحية خيانتنا لبعضنا؟ لقد تواطأ كثيرون في الداخل مع الخارج. بعضهم صفق، وبعضهم سهّل، وآخرون باعوا صمتهم مقابل وعود كاذبة. وكل هذا كان يُجهز السكين لبغداد وهي تنظر إليهم بعين أمٍّ تُذبح أمام أولادها.
ورغم كل شيء، لم تمت بغداد
اليوم، بعد أكثر من عقدين، ما زالت بغداد تنهض كل صباح. تهتز لكنها لا تسقط. تتألم لكنها لا تموت. في كل شارع منها طفل يحمل حقيبته ويذهب للمدرسة رغم الخوف. في كل بيت امرأة تُعدّ الشاي وتدعو الله أن يعيد السلام. في كل زاوية مقهى يجلس فيه رجل يحلم بوطن يستحق الحياة. هذه هي بغداد، لا تُقهر بالسلاح، ولا تُنسى بالخذلان.
خاتمة، لا تشبه النهاية
ليس من السهل أن تُكتب نهاية لهذا المقال، لأن سقوط بغداد ليس مجرد ذكرى، بل جرح مفتوح، يذكّرنا أن الغفلة ثمنها الدم، وأن الأوطان تُؤخذ حين نغفل عنها، وأن البقاء للأقوى، لكن النهوض دائمًا للأشجع.
فإلى بغداد أقول:
سقطتِ يومًا، لكنك علمتِ العالم أن السقوط ليس هزيمة، بل بداية لصحوة لا تنطفئ.
كتبت عشية 9 نيسان 2024