الشرق الأوسط بين تعددية الأقطاب وصراع المصالح
قراءة في تحول موازين القوى بعد الحرب الأوكرانية والصعود الصيني
عبدالقادر حداد
يشهد النظام الدولي في السنوات الأخيرة تحوّلًا جذريًا من أحادية القطب التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة، إلى نظام أكثر تعقيدًا يقوم على تعددية الأقطاب وتنافس المصالح الكبرى. هذا التحول لم يكن بعيدًا عن الشرق الأوسط، الذي ظل تاريخيًا ساحة صراع دائمة بين القوى الكبرى، لكنه اليوم يعيش حالة إعادة تموضع لم تتضح ملامحها بالكامل بعد، خاصة في ظل تأثيرات الحرب الروسية – الأوكرانية، وصعود الصين كلاعب سياسي واقتصادي في المنطقة.
تعددية الأقطاب وانعكاساتها على المنطقة
لقد أنتجت الحرب الروسية الأوكرانية تصدعًا في بنية التحالفات التقليدية، ليس فقط في أوروبا، بل في الشرق الأوسط كذلك. فدول عديدة أصبحت أكثر استقلالية في خياراتها، منتقلة من “الاصطفاف مع الغرب” إلى “التحرك ببراغماتية متعددة الاتجاهات”، وهو ما تجلى في الحياد النسبي تجاه الحرب، وتوسيع العلاقات مع روسيا والصين، دون التفريط بعلاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
الصين تدخل بثقلها
الصين لم تعد تكتفي بدورها الاقتصادي في الشرق الأوسط. بل بدأت تمارس دبلوماسية نشطة، كما ظهر في وساطتها بين إيران و السعودية ، وهو حدث يحمل رمزية سياسية كبيرة، ويؤكد أن بكين لم تعد تكتفي بموقع “الشريك التجاري”، بل تطمح لأن تكون “ضامنًا للتوازن” في منطقة مشتعلة.
من جهة أخرى، فإن مبادرة “الحزام والطريق” تعزز حضور الصين في البنية التحتية والاستثمار الإقليمي، مما يعطيها نفوذًا ناعمًا طويل الأمد، قد يتحول إلى تأثير سياسي مباشر في المستقبل القريب.
الانكفاء الأمريكي المؤقت
رغم أن الولايات المتحدة ما زالت تحتفظ بثقل عسكري واستراتيجي مهم في الشرق الأوسط، إلا أن تركيزها بات ينصب أكثر على منطقة المحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين. هذا الانكفاء النسبي سمح لقوى إقليمية مثل تركيا وإيران وحتى إسرائيل بتوسيع نفوذها الجيوسياسي، وهو ما يدفع الدول العربية إلى إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية والسياسية.
صراع المصالح الإقليمي: من المواجهة إلى التوازن؟
التنافس بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط ما يزال محتدمًا، لكنه بدأ يأخذ شكلاً أكثر تنظيمًا وتحكمًا، مع ميل بعض الأطراف إلى “إدارة الخلاف” بدلًا من تأجيجه. الاتفاق الإيراني – السعودي الأخير مثال على ذلك، وكذلك مسارات التطبيع العربي – الإسرائيلي التي تشي برغبة بعض الدول في تقليص حدة الصراعات التقليدية لصالح استقرار اقتصادي وتنموي.
إلا أن هذه التفاهمات تبقى هشة، نظرًا لاستمرار التهديدات التقليدية وغير التقليدية: من البرنامج النووي الإيراني، إلى توسع الميليشيات غير النظامية، إلى غياب تسوية نهائية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
مستقبل المنطقة: تعاون مشروط أم تصعيد مؤجل؟
الشرق الأوسط يقف اليوم أمام مفترق طرق. فإما أن تستثمر دوله في التوازنات الجديدة لتشكيل منظومة إقليمية قائمة على المصالح المشتركة، وإما أن تعود إلى دوامة الصراعات بفعل تضارب الأجندات الإقليمية والدولية.
في ظل غياب منظومة أمن إقليمي شاملة، فإن المنطقة ستظل عرضة للاهتزاز، ما لم يتم التأسيس لرؤية عقلانية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة الجديدة من النظام الدولي .