الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الدراسة الصيفية.. فرصة إصلاح ضائعة في جامعاتنا

بواسطة azzaman

الدراسة الصيفية.. فرصة إصلاح ضائعة في جامعاتنا

إسماعيل محمود العيسى

 

كان حيدر في السنة الثالثة من دراسته الجامعية، يحظى باحترام أساتذته وزملائه، معروفًا بدقته واجتهاده، أنهى امتحاناته بعناء وقرّر أن يمنح نفسه إجازةً مريحة بلا قراءة؛ بلا دورات؛ بلا شيء؛ قال لنفسه: «يكفيني ما مررت به»، في البداية كان الأمر مريحًا؛ سهر، ضحك، وقت طويل على الإنترنت، لا شيء جاد، ولا شيء مزعج؛ لكنه بعد أسابيع بدأ يرى زملاءه ينشرون صورهم في تدريبات مهنية، ويحكون عن دورات أكملوها، وعن مقابلات توظيف حصلوا عليها؛ شعر بشيء من الضياع؛ عاد إلى كتبه القديمة؛ لكنها بدت له غريبة؛ ولمّا عاد إلى الجامعة؛ لم يعد كما كان؛ أدرك – ربما متأخرًا – أن الراحة غير المنظمة قد تكون أثقل من التعب؛ وأن ما أهدره لم يكن وقتًا فقط؛ بل استعدادًا وفرصًا لا تتكرر.

حكاية حيدر ليست مجرد تجربة شخصية؛ بل هي مرآة لما يُعرف اليوم عالميًا بظاهرة «فقدان التعلم الصيفي»، وهي تراجع في التحصيل المعرفي والمهارات نتيجة التوقف الطويل عن الممارسة التعليمية خلال العطلة؛ وهذا الفقدان لا يُقاس بالدرجات فقط، بل يمتد ليشمل المهارات العملية، والانضباط الذاتي، والاستعداد لسوق العمل؛ ففي ثلاثينيات القرن الماضي؛ كان يُنظر إلى العطلة الصيفية بوصفها فسحة للراحة من أعباء التعليم؛ أما اليوم؛ ومع تسارع العالم الرقمي والتنافسي؛ أصبحت هذه الفترة الطويلة خطرًا كامنًا إذا لم تُستثمر بذكاء؛ فما خسره الطالب في الصيف؛ لا يُعوَّض بسهولة في الخريف.

مهارات تطبيقية

التوقف الكلي عن التعلُّم خلال الصيف يؤدي إلى انكماش ذهني تدريجي؛ خصوصًا لدى طلبة الجامعات الذين تُبنى تخصصاتهم على التراكم والممارسة؛ كما أن انقطاعهم عن المهارات التطبيقية؛ وفُرص التدريب والعمل التطوعي؛ يجعلهم أقل استعدادًا لسوق العمل الذي لا ينتظر أحدًا، والأسوأ من ذلك؛ أن الانضباط الذاتي الذي بُني طوال عام دراسي قد ينهار تمامًا خلال العطلة؛ فيعود الطالب إلى مقاعد الدراسة في الخريف وكأنه يبدأ من جديد؛ وبينما تُغلق الأبواب في الجامعات؛ تُفتح في العالم فرص؛ وتُصنع فيها مسارات؛ ويُبنَى فيها مستقبل آخرون.

ومع ذلك، لا يكمن الحل في إلغاء العطلة أو تقليصها قسرًا؛ بل في إعادة تعريفها؛ فالصيف ليس عدوًا؛ بل حليف صامت؛ إن أُدير بشكل حكيم، من هنا تأتي الدعوة إلى خطوة عملية وبسيطة: فتح الدراسة الصيفية بشكل اختياري مدفوع الأجرإبتداءً كخطوة أولى؛ بحيث يمكن للطلبة الراغبين أن يسجّلوا في مقررات خلال الصيف مقابل رسوم رمزية، تُخصص هذه الرسوم لدعم الأساتذة الذين يختارون التدريس في هذا الفصل، وبذلك نخلق دائرة نفع متبادل: الطالب يختصر من زمن دراسته أو يُحسّن مستواه، والأستاذ يتلقى حافزًا ماليًا إضافيًا، والجامعة تحقّق استفادة حقيقية من بنيتها التحتية التي تُهمل لثلاثة أشهر.

هذه الخطوة ليست بدعة، بل مطبّقة في كثير من الجامعات العالمية، الدراسة الصيفية ليست بديلًا عن الراحة، لكنها خيار لمن يريد التقدّم بخطوات إضافية؛ ومن الممكن أن تُقدَّم مقررات مكثّفة؛ أو ورش تدريبية؛ أو برامج مهارية؛ تغطي الفجوة بين الأكاديمي والميداني؛ كما يمكن أن يُعاد النظر في مدة الدراسة الجامعية نفسها؛ إذ يمكن – لبعض التخصصات – اختصار سنة كاملة من الزمن الجامعي، من أربع إلى ثلاث سنوات، ومن ست إلى خمس، دون المساس بجودة المخرجات، بشرط حسن التخطيط وإعادة توزيع المقررات. من جهة أخرى، فإن فتح الدراسة في الصيف يسهم في رفع كفاءة استثمار الأبنية الجامعية والمختبرات والمرافق التي تظل خاملة طوال الإجازة، ويوفر بيئة نشطة ومتصلة، بدلًا من الجمود المؤسسي المتكرر، لكن بالطبع، لا يمكن إنجاح مثل هذا التوجه من دون ضمانات؛ يجب توفير بيئة مناسبة من حيث الخدمات (كهرباء، تكييف، مكاتب)، وتحفيز واقعي للأساتذة، مع الحفاظ على معايير الجودة الأكاديمية وعدم تحميل الطلبة أو الكوادر أعباء إضافية تفوق طاقتهم.

إن الطلبة في عصر اليوم لا ينقصهم الذكاء، ولا الرغبة، ولكنهم بحاجة إلى إطار مؤسسي مرن يمنحهم الفرصة دون أن يفرض عليهم الخيار، فتح الدراسة الصيفية اختيارياً بأجور مناسبة هو تجريب عملي، لا يتطلب تغييرات قانونية جذرية، ويمكن البدء به في كليات معينة، وتقييمه، ثم تعميمه بناءً على نجاحه، والجميل في هذه الخطوة أنها لا تُقصي أحدًا: من أراد أن يستريح فليسترح، ومن أراد أن يُكمل طريقه فليفتح له الباب، فليس من العدالة أن يكون الجميع أسرى لوتيرة واحدة، في عالم لا يُساوي بين من يسعى ومن ينتظر.

فراغ ممتد

التغيير لا يبدأ من قاعة قرارات؛ بل من سؤال يطرحه الطالب على نفسه: ماذا أريد من صيفي؟ هل أجعل منه فراغًا ممتدًا؟ أم منصة انطلاق؟ من أراد أن يصعد، لا ينتظر المصعد… بل يبني سلّمًا من وقته، من طاقته، ومن وعيه، حيدر عاد مختلفًا لأنه اختار الراحة على الرؤية، لكنه حين أدرك ما فاته، صار أحرص على ألا يضيع صيفًا آخر؛ وربما نحن بحاجة إلى هذا الإدراك قبل أن نعيش التجربة.

الصيف لا ينتظر أحدًا، لكنه يكافئ من لا يضيّعه.

 


مشاهدات 53
الكاتب إسماعيل محمود العيسى
أضيف 2025/07/10 - 12:44 AM
آخر تحديث 2025/07/10 - 6:23 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 258 الشهر 5742 الكلي 11159354
الوقت الآن
الخميس 2025/7/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير