كنت قد عقدت العزم على حضور مجلس عزاء المغفور له الكاتب فاضل الربيعي عصر اليوم، لكني قررت صباحا الذهاب أولا إلى شارع المتنبي للبحث عن كتاب أو كتابين، في مكتبتي أكثر من كتاب له وقد قرأت شيئا منها وأرجأت البت بأهميتها و المضي بقراءتها لاحقا، كنت أهتم برواية أو اثنتين له ففيها، لعله يفصح ما أبحث عنه وما هو أهم من ( فلسطين المتخيلة)، قبل سنوات طلب صديقي أبو سلام، صابر الحلفي، طلب مني أن أبحث أو أمتلك رواية لفاضل الربيعي عنوانها (عشاء المأتم) وبرأي صابر فإنها مهمة لأنها تتطرق إلى عمه الشهيد (أبو نبيل) .
عندما تعرفت على صابر مع رهط كبير من الأصدقاء سنقضي معا تلك السنين والعقود العجاف، حينها كان أبو نبيل قد اعتقل توا فلم أتعرف عليه لكن ذكره سيمتد معنا في كل مجالسنا، أبو نبيل واسمه داخل الحلفي وهو ابن عم الشاعر المرحوم جمعة الحلفي ومن الجيل الذي سبقه وسبقنا وعلى كل حال تم إعدام (داخل الحلفي) بعد سنتين أو ثلاث وأبلغوا ذويه بذلك من غير تسليم جثمانه ومن سخرية القدر أن ورقة إعدامه مثبت فيها بأنه أعدم لانتمائه لحزب الدعوة وهو الشيوعي العريق .
قبل سنوات نشرت دار (ألكا) رواية لفاضل الربيعي عنوانها (ليلة الأسرار)، اقتنيتها فورا ظنا مني هي المقصودة والتي تخص( أبو نبيل ) ولما لم أجد ضالتي فيها ركنتها على رفوف مكتبتي عازما البحث عن ( عشاء المأتم ) فهي الأبكر صدورا، عام 1986، أما ليلة الإسراء فعام 2017 .
بحثت هذا الصباح في مكتبتي عن ليلة الأسرار فلم أجدها فقررت الخروج باكرا إلى شارع المتنبي فدار ألكا لاقتنائها مجددا والبحث مرة أخرى عن عشاء المأتم، تناولت فطوري في أحد المطاعم الشعبية وفورا أحسست بأني ليس على ما يرام، وجدت ليلة الأسرار في دار ألكا و أخذت قراءتها أو التهامها فورا بدءا من مكاني في سيارة الأجرة حتى البيت مقاوما أعراض المغص التي انتابتني، حينها قررت إتمام الرواية والكتابة عنها أفضل وأكثر ثوابا من حضور مجلس العزاء الذي كنت قررت الذهاب إليه رغم بعده عن مكان سكني إكراما لابنته الدكتورة ندى فاضل الربيعي التي حصل معها تواصل بسيط بعد أن كتبت عن الفقيد ليلة وفاته .
تتحدث الروايتان، عشاء المأتم وليلة الأسرار عن ليلة واحدة بذاتها في حانة معروفة عقد السبعينات وهي (الشاطئ الجميل)، حيث يلتقي مجموعة من الشيوعيين حول مائدة عرق زحلاوي تطربهم أم كلثوم بأغنيتها الخالدة (يامسهرني) والنادل المصري يقوم بخدمتهم، وعندما أكملت الرواية قبل قليل توصلت إلى أن الروايتين هي رواية واحدة، كتبها فاضل الربيعي عام 1986 أولا بالأسماء الصريحة لأبطالها ثم أعاد نشرها عام 2017 بعد أن غير الأسماء الحقيقية صوب أسماء مستعارة ربما للتخلص من الحرج واحتراما لمن مات منهم، وقد يكون الدليل أو هو السبب المقنع لعدم عثوري على عشاء المأتم حيث لا داع لإعادة طبعها مادامت قد نشرت بعنوان آخر وأبطال آخرين .
يقول في ليلة الأسرار وفي الصفحة 226 :
( يجلس إلى مائدة العشاء الأخير، عشاء المأتم الذي يقيمه لنفسه قبل رحيله، وعندما ينتهي المعزون، المشيعون من تناول العشاء فإن الميت، سيكون قد مات حقا).
عند قراءتي ذلك، لم أتأكد فقط من أن الروايتين هي رواية واحدة بل وهو الأهم بأن الكاتب كان قد رثى نفسه مقدما، وكذلك أني أحسنت صنعا عندما حضرت عزاءه بطريقتي حتى كأني آخر المعزين حتى أننا لوحنا لبعضنا بدلا من قراءة الفاتحة.
تبدأ رواية ليلة الأسرار وتنتهي بالدخول عبر السلم الرخامي والممر الطويل للشاطئ الجميل، ومنذ الصفحة الأولى وجدت نفسي فيما يكتب الكاتب، نفس الكلمات وتراتب الجمل، أبطال محشورون في زاوية خانقة وضعها لهم حزبهم بتحالفه مع قاتله وقاتلهم، مجموعة أصدقاء يناقشون ضرورة ذهاب أحدهم( كريم ) لمصالحة زوجته وإعادتها إلى البيت، زوجته( فردوس ) التي يحبها الجميع على مايبدو أو الجزء الأكبر منهم .
يتحدث الراوي العليم (الذي ينتمي ولا ينتمي، يرى ولا يتكلم، يعيش لكنه في هروب دائم ) يتحدث عن صورة فورية يلتقطها أحدهم للمتهم، وكيف تتحول إلى دليل إدانة عندما تتم مطارتهم وهروبهم وكيف يبحثون عنها بغرض إتلافها حتى لا تكون دليلا ضدهم .
في العام 1974، التقطنا صورة جماعية تحت نصب الحرية وهي الصورة الوحيدة التي تجمعنا بصديقنا الشهيد رياض البكري، كنت أوسطهم وكان الجميع يضحك، عندما استلمنا الصورة كتبت خلفها (من رحم الحزن تولد الأغنيات )، كانت نسخة واحدة للصورة وعندما أعتقل رياض عام 1977 وكنا مهددين بالطبع بالاعتقال أيضا أتلفنا الصورة، بعد إعدامه وبعد أعوام من ذلك ظللنا نبحث عن نسخة أخرى للصورة، عند الاستوديو الذي يعمل فيها المصور الجوال، ومكانه بالزقاق المجاور لسينما غرناطة قريبا من مكان تذاكر( أبو الأربعين ) .
مع نفس أصدقاء (أبو نبيل) داخل الحلفي، كنا أيضا نلتقي في الشاطئ الجميل، لكن بعد العام 1980 حيث هرب أو أعتقل أو قتل أصدقاء الكاتب، لكن كان مضربنا في الطابق الأسفل للشاطئ الجميل (الشتوي) وقد كتبت عن هذه الحانة وصلة خاصة .
لا تتضمن رواية ليلة الأسرار أفكارا أو اختلافا فكريا وربما تضمنت قبلها (عشاء المأتم ) مثل ذلك فتخلص منها الكاتب، فبعض الأفكار تغدو بلا معنى بالتقادم، هي رواية مصائر :
(إنها ليلة الأسرار، الليلة التي يفضح فيها خبايا عقد كامل من تأريخ العراق، هو العقد السبعيني . رواية مهمة للجيل الشاب، لمن يريد أن يعرف كيف شرعت السلطة في بغداد منهج العنف والقتل والقمع بكل أشكاله . زمن الرواية هو ليلة واحدة فقط .مكانها بغداد).
عندما أنهيت الرواية وجدت كاتب ليلة الأسرار مازال يتخذ موقعه في الشاطئ الجميل، ليلة الأسرار في حانة الأقدار كناية عن أن الحقيقة التي ظل يلاحقها فاضل الربيعي طويت سحيقا في ليلة عتيقة أو تأبدت هناك في لاجدوى الحياة وعبث النضال، ولو كانت أبواب الشاطئ الجميل مازالت مشرعة لذهبت هناك، حينها سيكون العزاء أكثر صدقا وأكثر قربا.