كل شيء يجري في العراق باتجاه يخالف المنطق والواقع والمستقبل، ويساهم في تدمير العقول وتغييبها وتهييج الغرائز البدائية والانفعالات المتطرفة ، فقد اعتدنا دائما من قبل السلطات( قبل وبعد العام 2003 ) على صور مبالغ بها في التكريم والاحتفاء ، عادة ما تسبغ على كل ماهو رث وشعبوي ولحظوي وانفعالي وعابر ، ولا يترك اي أثر مهم في تنمية الوعي والمعرفة والانتاج المادي . فلا الصناعة نالت شيئا من الاهتمام ولا التعليم ولاالزراعة ولاالثقافة .
ابرز مثال على هذا التدمير والتسفيه لكل الانشطة الانسانية الفعالة هو ما تحظى به كرة القدم من افراط في الاهتمام والتقدير، ماديا ومعنويا ، وكأن لاعبي المنتخب ، إذا ما فازوا في مسابقة كروية(حتى لو كانت مسابقة غير معترف بها من قبل الاتحاد الدولي ) سيحققون العدالة الاجتماعية المفقودة في البلاد ، وسيستردون بفوزهم السيادة و الاموال العامة المنهوبة من خزائن الدولة، وسينال المواطن حقه في العيش الكريم ، ويتم انصاف ملايين الفقراء بحياة تليق بآدميتهم . الدولة ينخرها الفساد من رأسها إلى أساسها ، وما من بارقة أمل لكي تخرج من هذا المستنقع ، بل هي ذاهبة إلى أسوأ من ذلك بكثير ، ولكن رجالات الدولة ومؤسساتها ، لايعنيهم سوى تحقيق انتصارات وهمية على خصومهم في ملاعب كرة القدم ، واغراق العراقيين في دوامة من شعور كاذب بالتفوق والتعملق ، ولو لبرهة من الزمن ، سرعان ماتزول هذه الغشاوة بعد انتهاء المباراة، ليجد العراقي نفسه مرة أخرى امام واقع بائس وتعيس، ابرز ابطاله ساسة لصوص وفاسدين . سيارات وأموال وهدايا ثمينة تذهب تكريما لاقدام لاعبي كرة القدم ، وعقول المفكرين والعلماء والادباء والمثقفين المنتجين للمعرفة يطالها الاهمال والنسيان ..!
ما جدوى هذا السعير المحموم بكرة القدم ؟
ما الذي خلفته انتصارات المنتخب في كل المسابقات التي شارك فيها على مدى العقود الماضية ؟
هل استطاعت ان ترفع من قيمة الجواز العراقي ؟
هل ارتفعت صادرات العراق من السلع ؟
هل جنبت العراق شبح الحروب ؟
هل وفرت الدواء لمرض السرطان ؟
هل بنت مستشفيات ؟
هل وفرت مقاعد دراسية للطلبة ؟
هل وفرت احتياجات الطالب العراقي من كتب ولوازم مدرسية ؟
هل قضت على البطالة المتفشية ؟
هل رفعت من قيمة الدينار العراقي أمام الدولار ؟
هل ارغمت المحتل الاميركي على ان يحترم سيادة العراق ؟
هل ارعبت اسرائيل ؟
هل أوقفت تدخلات دول الجوار في الشأن العراقي ؟
هل أعادت الأموال المنهوبة بصفقة القرن ؟
هل أرغمت السلطة على أن تبقي المتورطين بسرقة القرن خلف القضبان ولاتطلق سراحهم ؟
هل ايقظت الشعور بالانتماء للوطن لدى الساسة الفاسدين ؟
كرة القدم في العراق حالها حال المخدرات التي اخذت تفتك بالمجتمع ، وربما تأثيرها اكبر منها ، لان من سقط في لعبتها ليس عامة الناس ،إنما تيار واسع من المثقفين والفنانين والنخب الاكاديمية .
لن يكتب لهذا البلد فرصة النهوض مما هو فيه من انهيار في الوعي ، والاقتصاد ، والعلم ، إلا إذا تم التعامل بواقعية وعقلانية مع هذه اللعبة ، باعتبارها لعبة للتسلية فقط ، مثل غيرها من الالعاب الاخرى ، وليست معركة وجودية تغدق عليها الاموال وتزهق بسببها الارواح . ربما سأبدو في نظر البعض من المثقفين والمتعلمين بغاية التطرف في قناعتي هذه ، ومن المؤكد سيسخر مني جمهور كرة القدم ، وآخرين سيتهمونني بكراهية النظام السياسي ، وبأنني حاقد وكاره وطائفي وبعثي وداعشي، طالما لم اشارك العراقيين مشاعرهم وفرحتهم بالانتصار ، ومثل ردود الافعال هذه ليست جديدة ولاغريبة ولاتحمل اي مفاجأة بالنسبة لي ، أو لآخرين مثلي يشاطرونني الرأي وهم كثيرون .
انا انتمي لهذا البلد وليسى لانظمته ولاحكوماته ، وليس بمقدوري أن انتزع هذا الانتماء من داخلي ، حتى لو حاولت ذلك في لحظة يأس ، رغم انني لم انتفع منه ، ولا اكشف سرا عندما اقول بأنني احيانا اكره القدر الذي فرضه علي .لكنني لا استطيع أن اخونه أو اجامله ، طالما أحمل له في داخلي مشاعر من الحب تساوي محبتي لأهلي ومعارفي واصدقائي وربما أكثر منهم . ومع انني لا أراهن على ان اي كلمة أو مقالة يمكن ان تحدث تغييرا مؤثرا على الأرض في العراق ، إلا انني وجدت نفسي غير قادر على أن امنع نفسي من ان تبوح بما يجيش بها من رفض واستنكار واحتقار ، لكل الصور التي شاهدتها خلال اليومين الماضيين ، عندما استقبل عتاة اللصوص من الساسة ،اعضاء فريق المنتخب العراقي ، وفي المقابل ايضا ذهب المنتخب بقضه وقضيضه زاحفا لاهثا لينال بركتهم وهداياهم ، رغم علمهم بأنهم لصوص وفاسدين وبعضهم بغاية الاجرام .
فما الذي تغير بين الأمس واليوم ..ليصبح تكريم اليوم حلال وتكريم الأمس اجرام .. ! .
قد تختلف المسميات لكن المعنى واحد .