حسن النواب
كنتُ أحد الجنود الناجين من معركة الطاهري الدامية والتي فقدنا خلال ثلاثة أيام من القتال الضاري عشرات الجنود والدبابات من كتيبة دبابات الكندي، سألني أحد جنود المشاة الذي جاء به الذعر من القصف الكثيف ليضطجع بجوار دبابتي:
- هل تنتهي هذه الحرب؟
وقبل أنْ أجيبهُ خطفتْ طائرة معادية بانخفاض واطئ جدا ً؛ كادت تجزُّ رأسينا بجناحيها الرماديين. كان دَوِيُّ الطائرة من شدّتهِ قد أرغمنا أنْ ننكمش مثل قنفذين داهمهما الخطر؛ ولما تطلَّعتُ إلى وجه جندي المشاة وجدتهُ يشبه ليمونة صفراء، في حين هتف هلعاً:
- وجهك مثل صفار البيض.
يبدو أنَّ هدير الطائرة قد سرق الدم من وجهينا معاً. لبثنا لدقائق نستردُّ أنفاسنا من الهلع بينما كان تراب الساتر يتطاير بتفاهةٍ نحو وجهينا حتى اختنقنا بغباره الممزوج برائحة البارود، عاد جندي المشاة يسألني بنبرةٍ مخنوقةٍ:
- مَنْ يكترث بما نعاني منهُ الآن؟
لم تمهلني القذيفة التي سقطتْ بغتةً بالرد على سؤاله؟ فلقد أصابتهُ حفنة شظايا في رأسه وصدره وهمدتْ أنفاسه على عجلٍ أمام أنظاري مثل حَمَلٍ وديعٍ تضرَّج بالدم، عيناهُ مغمضتان وثغره مفتوح وقد بانت قواطعه الأنيقة؛ كأنَّ ابتسامة بريئة وئدتْ بين شفتيه. كنتُ أفكر في تلك الدقائق الحرجة بأمرٍ واحدٍ فقط، أنْ تصل جثتي إلى أهلي ولا أبقى في العراء؛ ولذا تحسَّستْ خرق المعلومات في جيبي؛ ولما تحقَّقتْ من وجودها، شعرتُ بفرحةٍ مبهمةٍ وبدأت أعدو مثل معتوه بحثاً عن الموت حتى أتخلَّص من القلق الذي أوشك على تدمير كياني. ولما بقيت على قيد الحياة بعد انتهاء معركة الطاهري، أيقنتُ أنَّ القلق في ساحة الوغى أشدُّ رعباً من الموت؛ ولكن من هو الذي يتعاطف معي ويؤمن بإحساسي؟ كنتُ عندما أعود من جبهة الحرب بإجازة؛ أمضي أيامي السبعة باحتساء ابنة الكروم والاستماع إلى أغنيات عراقية تقطر لوعةً وحزناً؛ وأمضي وقتاً بمطالعة الصحف بقنوطٍ، وأحيانا أقلّبُ صفحات كتاب بذهنٍ مشوَّشٍ ومظلم. كانت أمي رحمها الله قلقة جداً من إفراطي بالشرب، ومما زاد في قلقها أفراطي بالتدخين واحتسائي كؤوس ابنة الكروم الثقيلة من دون طعام، وفقدان الشهية عن الطعام هذا مازال يلازمني حتى الآن. وحتى تنقذني من إدماني على ابنة الكروم في كل إجازة، قرَّرت اللجوء إلى إحدى العرّافات؛ وجاءت منها بطلَّسمٍ مقروءاً عليه بعض الآيات؛ إذْ وعدتها العرَّافة إذا ما شربت ذلك السحر مع ابنة الكروم سأكرهها وابتعد عنها إلى الأبد. ويبدو أنَّ أمي رحمها الله قدْ نجحتْ بدسِّ ذلك الطلَّسم في شرابي لأحتسي ذلك الكأس المسحور من دون علمي، لكنَّ الذي جرى في مساء اليوم الثاني؛ أني لم اكتف بنصف قارورة من ابنة الكروم؛ إنمّا أفرغتها بالكامل في جوفي. حضرت أمي رحمها الله لتجلس أمامي وإذا بها تعترف عمَّا فعلتْ بأحد الكؤوس التي شربتها؛ ثم أردفتْ يائسة:
- يبدو أنَّ السحر لا يؤثر فيكَ أبداً.
أجبتها بقناعةٍ متهكماً:
- وهل يؤثِّر السحر بمجنون؟
وعندما أخذني الوطن من حضن أمي إلى الحرب؛ رأيتُ طيف الله كثيراً هناك في جبهات النار، لكني رأيتهُ بوضوح في ظلمةِ ليلٍ دامسٍ؛ حين هبطتُ من شاحنة الأورال عند قاطع الفكة للالتحاق إلى وحدتي العسكرية كتيبة دبابات أشبيلية التي نقلتُ إليها بعد تدمير كتيبة دبابات الكندي في شرق البصرة. اكتشفتُ أني تركتُ عجلة الأورال بموقعٍ مجهولٍ ولا أعرف كم يبعدُ عن وحدتي العسكرية. ما أنْ خطوتُ على شارع ترابي حتى هاجمني قطيعٌ من كلاب الجبهة المسعورة، كان نباحها الشرس يفزع حتى الظلام، وملامح الموت تنبعثُ مثل ألسنة النيران من عيونها التي تومض كحدقات الجن، تلك الكلاب التي شبعتْ من جثث الجنود القتلى؛ لم أشعر برعبٍ طيلة حياتي في جبهات الحروب مثل تلك الدقائق العسيرة التي وضعتني بمأزقٍ لا خلاص منهُ، كدتُ أفقد الأمل بالبقاء على قيد الحياة، إذْ كانت رؤيتي معدومة تماماً في حندس الليل وستلتهمُ الكلاب الشرهة حتى أظفاري، وبكفٍّ مرتعشةٍ حرَّرتُ النطاق من خصري لأقبض على طرفهِ بيأسٍ وأحرّكهُ يميناً وشمالاً بمحاولةٍ لإنقاذ جسدي قبل أن يكون وليمة لقطيع الكلاب المتوحش. كانت المواجهة غير عادلة بكل المقاييس، بينما كانت الكلاب تدنو رويداً رويداً مني؛ حتى صار هريرها ولعاب سعارها المتوحش يتطاير على وجهي، فجأةً تدفَّقتْ من أعماقي صرخةٌ هائلةٌ، أجل صرختُ: يا الله؛ وانبريتُ أدور حول نفسي والنطاق أصبح يدور معي؛ وإذا بالكلاب تتقهقر بلمح البصر وتختفي بسديم الظلام مع نباحٍ فاترٍ ومهزومٍ يندُّ منها، لقدْ آمنتُ أنَّ تلك الصرخة لم تكنْ من أعماقي إنَّما كانت من الله.