ظاهرياً، وفي الغالب، لم يجبرنا أحد من الغرباء على هجر أوطاننا واللجوء الى بلدان الشمال، غير أن تفحص الأمر يجعلنا نقف على رأي آخر!
يتحدث المهتمون بقضايا الهجرة عن عوامل طاردة وأخرى جاذبة في تحريك عملية الهجرة، والمحفوفة في أغلب الأوقات بمخاطر متنوعة سياسية واقتصادية وثقافية، وليس نادراً بخطر الموت! فكم من الآلاف من ابتلعهم البحر المتوسط وهم في طريق هجرتهم من أفريقيا السوداء وآسيا الصفراء الى أوروبا البيضاء!
بيد ان تلك العوامل الطاردة لم تكن لتتشكل دون تقصير ذاتي من قبل شعوبها وادارات حكمها، من ناحية، ومشاركة من قبل قوى خارجية من ناحية أخرى. هذه المشاركة التي أخذت أشكال الاحتلال والنهب والحكم الاستعماري لما يسمى دول الجنوب الضعيفة المتخلفة.
وعلى مدى عقود من الزمن تسارعنا في الهجرة جماعات وفرادى وتعللنا بشتى الأسباب منها ما هو بصائب ومنها ما هو ليس كذلك. أحببنا أن نعيش الحياة التي لم نعد نراها في أوطاننا، واشتقنا الى حرية الرأي والجسد والمعتقد!
لكن الشمال لا يقف عند تلك الحريات وانما يتعداها بعوامل جذبه الى تقدمه العلمي والتقني ورفاهيته الاقتصادية بالقياس إلى الأوضاع المزرية لأطياف واسعة من شعوبنا.
لكننا وبعد أن أشبعنا حاجاتنا الجسدية ورغباتنا المكبوتة، بدأت مكنونات رغباتنا الدفينة الأخرى وتوقنا الى الوقوف في الصف الأول وعلى ذات درجة الآخرين في الاحترام والتقدير. كما بدأنا نفهم كيف اغتنت هذه الشعوب وكيف تنامت وتراكمت ثرواتها، وكيف تنظر شعوبها الى شعوبنا. وهكذا ومع تقدم العمر، بكل ما يحمله ذلك من وعي وخبرة وتشكل مواقف، ازداد إحساسنا بالحاجة الى كرامة خصوصية الهوية والشوق الى الوطن الأم.
لكن قطار العودة الى الجنوب سيحمل أكثر من غصة!
غصة ان الوطن الذي تركوه وعاش معهم في أحلامهم لم يعد ذلك الوطن!
وغصة أن وطن أبنائهم ليس هو ما يحن اليه آباؤهم من وطن!
برلين، 14.11.2023