شوقي غزالة .. الطبيب القديس
أحمد عبد المجيد
جمعني صديقي الخبير المحاسبي فائق العبيدي، بالنطاسي البارز شوقي غزالة، الذي أمضى نحو نصف قرن من حياته في خدمة مرضاه في بغداد، فهو ابنها ومطبب أوجاعها، ومازال يكن لأهلها المحبة ويتمنى لهم الأمن والامان، وقد وجدته في أربيل حيث يزاول عمله طبيباً، محاطاً بعراقيين من جميع المدن، ويسعى لاسعادهم من خلال علمه في مجال الجراحة الطبية والتشخيصية. ووجدت في عيادته وفي المستشفيات التي يزاول العمليات الكبرى، فيها صورة نادرة لطبيب ابيقراط ، الذي اقسم بالتفاني والاخلاص في مهنة الطب والحفاظ على سرية احوال مرضاه.
واذا كانت صورة الطبيب اليوم، داخل البيئة المحلية العراقية، قد تسللت السلبيات في بعض مظاهر سلوك مزاوليها، فأن صورة الطبيب في رحاب غزالة ظلت زاهية تذكرنا بحنان وعطف وتفاني اطباء الأمس الذين كانوا يفنون حياتهم ويهدون سنوات شبابهم من أجل تعافي مرضاهم واعادة الحياة الى من أدخل اليأس الى قلوبهم ، وكاد الموت ان يشيعهم الى المثوى الأخير.
النطاسي شوقي غزالة، طبيب من هذا النوع وأكثر .. فهو لم يكتف بالشهرة التي حظي بها ،سواء في مطلع عمله في الطب أو مزاولته له في العقود اللاحقة، بل حرص على ان يحافظ على نقاء سجله الطبي، وذلك بالدراسة المعمقة والاطلاع الواسع والممارسة الناجحة ،التي تضاعف الخبرة وتكرس الاجتهاد. ولعل الذين يعرفون غزالة أكثر مني يدركون حجم جهوده في الاضافات العلمية، التي قدمها الى الطب في العراق والعالم. فهم يعرفون ان ذروة سعادته تكمن في المشاركة في مؤتمر طبي عالمي أو قراءة تجربة سطرها جراح اجنبي كبير من زملائه، في عواصم العالم ونشرت في احدى الدوريات الطبية. ويعرفونه ايضاً مواكبا، للانجازات التقنية المتسارعة في قطاع الطب التشخيصي والجراحة البولية وهي آفاق رقمية باهرة.
واذا راجعنا سجله المهني، فأننا سنقف مبهورين أمام اعداد العمليات النوعية، التي نقل بموجبها الطب العراقي من حالته المحلية أو محدوديته الاجرائية ، الى فضائه العالمي الواسع، ولذلك فأن اسم شوقي غزالة يحتل صدارة اطباء العالم في اختصاصه الدقيق، وتأتيه، نتيجة ذلك، استشارات حائرة من أبرز مستشفيات العالم. والحق ان العراق فخور بهذا الطراز النادر من الاطباء، ومرضاه محظوظون لأنهم مأمنين بكفاءة طبيب من هذا المستوى.
ولعلها مفارقة سعيدة جداً ان عائلة غزالة تنفرد بكونها أسرة طبية بأمتياز، فللنطاسي شوقي غزالة شقيق طبيب ، وله نجلان طبيبان ومرموقان يزاولان المهنة في كندا والولايات المتحدة. وربما سيكون له احفاد ينقلون خبرة الجد والاب اليهما ،ونتمنى ان يختطون طريقهما ،من حيث المهارة والسلوك الطبي والانساني وحب العراق.
ما أثار في نفسي الاعجاب بهذا الطبيب اللامع، ليس نجاحاته وتقواه حسب، بل قدرته على تحدي تقادم العمر، فهو - ما شاء الله عليه- يمتلك روح طبيب شاب وارادة انسان يدرك قيمة واهمية المحافظة على صحته من أجل هدف انساني نبيل ، هو انقاذ حياة البشر. رأيته يعمل دون كلل أو ملل ساعات طوال من يومه، واحياناً متنقلاً بين العيادة وصالات الجراحة في ثلاث مستشفيات في أربيل ولا يعوقه العجز عن الذهاب الى الموصل، فلا يتعذر بالتعب، ولا يتحرج من تحديد مجال علاقاته الاجتماعية، في وقت يحتاجه مريض أو ينتظره مصاب على ابواب الطوارئ. ونراه في وضع الاستعداد دائماً، وهو في مسؤولية اخلاقية أمام مواطنيه، طالما ان الغاية هي تقديم خدمة طبية مثالية تفضي الى انقاذ حياة مريض مستهدف أو خلقه من جديد.
رأيت شوقي غزالة، فتجسدت أمامي صورة قديس، يرتدي مسوح أشهر اطباء التاريخ العربي، كابن النفيس او ابن الهيثم او ابن سينا وابن البيطار، ويتلوا آيات مبضعه فوق اجسادهم ، باثاً في اعضائها الرحمة والمغفرة والانبعاث. وتأملت قسمات وجهه فلم أر فيها إلا السعادة المبهرة والصفاء النقي وهيبة الحضور الطاغي. وتساءلت في نفسي عن هذه الاسرار التي تجمعت في عينيه لتخلق منه دعاء شفاء وبلسم عافية. يمسك شوقي غزالة قلمه، وهو يرتدي بدلة الطبيب، فيلوح في أفق خيالك وحي القراءة المنزلة من السماء السابعة. وعملياً فأن رجالاً من مرتبته يحملون شعاعاً منيراً وضوءاً ساطعاً يخترقان اجسادنا ويحيلان الاجزاء اليباب منها أو المصابة بالعاهة والمتشكلة بما يقال انه مرض، الى دفق حي وكائن آخر معافى. لعلها حالة تجل أو شيء من قبيلها ، أو لعلها الاستجابة الملبية لنداء ذوي مرضى عاجزين ، لكن رحمة الله متمثلة بمبضع شوقي غزالة تهبط عليهم ، فترفع عن نفوسهم الغم وتأخذهم الى ضفاف الفرج وتعيدهم الى الايمان المطلق .. ان الله اقرب الينا من حبل الوريد.يبقى اني ادعو وزارة الصحة الى تكريم هذا الطبيب واعلان يوم خاص للاحتفال به، وانجاز صرح بأسمه أو وضع تمثاله أمام مستشفى الراهبات ، وسط بغداد، حيث تقع عيادته التليدة التي تنتظر قدومه اليها وسط حشد من مرضاه السابقين المتعافين المصفقين له بحرارة.