زينب (ع) المرأة التي هزت عروش الطغاة
حسين الزيادي
تأتي السيدة زينب بنت علي عليها السلام في طليعة النساء العظيمات في تاريخ الإنسانية، إذ تكاملت في شخصيتها نواحي العظمة، وتجلت في ذاتها اسمى مراتب الكمال البشري، واجتمعت في كيانها جواهر الفضائل والجلال والرفعة والبهاء، وتجسدت فيها مكارم الأخلاق، ومحاسن النبل والسخاء، وعندما نقرأ شخصيتها النبيلة نراها العالمة، المحدثة، الصديقة، الفاضلة، الرشيدة، التقية، النقية، الْمَرضِيَّة، وهي العاقلة اللبيبة الجزلة كما وصفها ابن حجر العسقلاني، ولا عجب فقد وُلدت سلام الله عليها في بيت الوحي وارتشفت من فيض الولاية، وعاشت في حضن الرسالة، وكنف الإمامة، فهي الحفيدة الأولى لنبي الرحمة، امها سيدة نساء العالمين وبضعة الرسول فاطمة الزهراء، وابوها سيد اْلأَوصِياء، إِمام الاتقياء وركنِ الأولِياء امير المؤمنين علي عليه السلام، وجدتها لامها سيدة قريش وام المؤمنين الصديقة خديجة الكبرى، وجدها لأبيها شيخ البطحاء وسيد بني هاشم ابو طالب، وجدتها لامها الراضية المرضية فاطمة بنت اسد، فهي فرع زاكٍ من فروع بيت النبوة، عاصرت والدها خمس وثلاثين عاما كانت الاقرب الى قلبه لانه يرى فيها امها الزهراء عليها السلام، فتاثرت الحوراء بابيها علي : شجاعةً، واقداماً، وفصاحةً، وبياناً، وزهداً، وانقطاعاً الى الله ، ومن هنا يقف الإنسان عاجزاً أمام هذا الارث الضخم، المليء بالفضائل والكرامات والمعارف ورباطة الجأش، فهي الثائرة المجاهدة ، والعابدة الناسكة، والفصيحة اللبيبة، وعندما نتناول شخصيتها فإننا ننطلق من باب (مالا يدرك كله لا يترك جله) ، فهي محاولة متواضعة لإعطاء صورة عن السراج الذي أضاء من قلب الظلمة، والسيف الذي انتصر من داخل المأساة، والقدوة التي تبحث عنها كل امرأة.
ولدت سلام الله عليها في المدينة المنورة في الخامس من شهر جمادي الأول سنة 6 هجرية، وقد أسماها جدها زينب، فالسنوات الخمس الأولى من عمرها عايشت فيها جدها المصطفى الذي كان يكن لها محبة كبيرة، فكانت بحق حبيبة قلب النبي، وكثيراً ما كان ما يتردد على بيت ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام لرؤية حفيدته الصغيرة، ويحرص على مداعبتها وملاعبتها، ورافقت السيدة زينب أمها الزهراء خلال الأشهر التي اعقبت وفاة الرسول، اما المرحلة الخطيرة فهي التي عاصرت فيها حكم أبيها الإمام علي عليه السلام، ثم مواكبتها لمحنة أخيها الحسن وما تجرع فيها من غصص وآلام، وكل تلك الادوار والاحداث كانت مقدمات للامتحان الاصعب والدور الاكبر الذي ينتظر عقيلة الطالبين ، فقد كانت كربلاء المحطة الأهم والأبرز في حياة السيدة زينب، فكان لها دور أساس ورئيس في تلك النهضة، ولو لم تكن زينب لكانت كربلاء مجرد جريمة اضاعت الصحراء تفاصيلها، فهي الشخصية الثانية على مسرح الثورة بعد شخصية أخيها الإمام الحسين عليه السلام، ولولا السيدة زينب لما حققت كربلاء أهدافها ومعطياتها وآثارها في واقع الأمة والتاريخ، لقد أظهرت كربلاء جوهر شخصية السيدة زينب، وكشفت عن عظيم كفاءتها القيادية، كما أوضحت عقيلة بني هاشم للعالم حقيقة ثورة كربلاء ومعالمها، اذ شهدت يوم عاشوراء، وعاشته بكل تفاصيله الدامية واوجاعه المؤلمة، والذي فقدت فيه أخوتها وولديها وبني عمومتها وأهل بيتها، فلم تزعزعها كل هذه النكبات، ووقفت كالطود الشامخ تجمع بنات الوحي وربائب الرسالة
شاهدت فخر المخدرات أخاها الحسين عليه السلام وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين، وقد أحاط به الأعداء من كل حدب وصوب، قد ازدحم القوم على رحله ومناديهم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين، ولا تبقوا لأهل هذا البيت باقية ففرت النساء والأطفال على وجوههم في البيداء، ومن عجائب الدهر انها كانت تنظر إلى قتلة أخيها وأصحابه وهم يسرحون ويمرحون، والسياط بأيديهم يضربون الأطفال والنساء وهم في غاية الشماتة، لذا يمكن القول ان مصائب زينب زادت على مصائب أخيها الحسين عليه السلام أضعافاً مضاعفة، فهي قد شاركته في جميع مصائبه، وانفردت بالمصائب التي رأتها بعد قتله، من النهب والسلب والضرب وحرق الخيام والأسر وشماتة الأعداء، لذا لقبت بجبل الصبر لأنها اخجلت من صبرها الصبر، ولم يكن صبرها ضعفاً، بل كان إعصاراً يقتلع جذور الظلم وبراثن الاستبداد.
هناك في مجلس ابن زياد دخلت زينب متنكرة، فلما توجه اليها ابن زياد قائلا من هذه المتنكرة ، قيل له انها زينب بنت علي ، فأراد ابن زياد ان يتشفى منها فقال : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب احدوثتكم .فقالت : انما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر وهو غيرنا ، فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك واهل بيتك ، فقالت ما رأيت الا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك امك يا ابن مرجانة، فغضب ابن زياد وكأنه هم بها، فقال له عمرو بن حريث: انها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ، ويتضح من سياق الاحداث ان السيدة زينب كانت الجزء المكمل لمسيرة السبط الشهيد، وإذا كانت واقعة الطف من اقدار الله سبحانه فإن من تقديره الحكيم ان يكتمل الجزء الثاني من المسيرة على يد من تكون شخصيتها مثيلة لشخصية اخيها الحسين ، لا في الجوانب المادية فقط ، وانما في الجوانب الروحية.
جاءت إلى كربلاء كسحابة رحمة تظلل أخاها الحسين، كانت تحمل في صدرها بحراً من يقين النبوة، وفي عينيها بريق الإمامة، فكانت القلعة التي تحطمت عليها سيوف الغدر والشماتة، واللسان الذي نقل صرخة الحسين عليه السلام من رمال الطف إلى مسامع التاريخ، عندما سقط ابن الرسول الاعظم تحت حوافر الخيول، لم تنكسر، بل تحولت إلى جبلٍ يزحف نحو الجثمان الطاهر، خطواتها كانت ترسم أولى حروف الملحمة: اقتربت من الجسد المضرّج بالدماء ويداها المرتجفتان تلامس الجراح النازفة، في تلك اللحظة التي تجمدت فيها قلوب الرجال، كانت هي البركان الذي انفجر صمتاً، انها المرأة التي حملت جثث الاحبة فحملتها الاجيال في ضمائرها، جلست عند جسد اخيها لترسم طريق الخلود فطرحت نفسها على الجسد الشريف، قائلة : ءأنت الحسين؟! ءأنت أخي؟! ءأنت ابن أمي؟! ءأنت نور بصري؟! ءأنت مهجة فؤادي؟! ءأنت حمانا؟! ءأنت رجانا؟! ءأنت ابن محمد المصطفى؟! ءأنت ابن علي المرتضى؟! ءأنت ابن فاطمة الزهراء؟ .
في طريق الأسر إلى الشام، حوّلت قيودها إلى سلاسلَ تكبل أعناقَ الطغاة، وصمتَها إلى صيحة تزلزل عروش بني أمية، كانت تخطو بين الأسرى كأنها النار تمشي على أرض من جليد تذيب الخوف، وتزرع الكبرياء العلوي، وفي بلاط يزيد، وقفت كالصاعقة التي تفلق السحاب، لم تَنحنِ، ولم تداهن ولم تصانع ولم تستكين، بل جعلت اركان القصر يرتجف تحت سطوة كلماتها، ويرتعش من جبروت حروفها، ويذوب هيبة تحت وطأة لسانها، فكل لفظة تخرج من فمها كانت مسماراً في نعش الظلم، وكل حرف كان معولاً يحطم جدار الخوف، وكل عبارة كانت شرارة تلهب ظلام الاستبداد، وتقطع اوصال الطغيان ،(افعل ما شئت فلن تمحو ذكرنا).. بهذه الكلمات دفنت زينب بنت علي عليها السلام جبروت الطاغوت تحت رمال التاريخ، ما ان تكلمت زينب في مجلس يزيد حتى تحول المجلس الى محاكمة تاريخية فكشفت ان انتصاره مجرد وهم: أأظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى أنَّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعِظَمِ خَطَرِكَ عنده، فشمَخْتَ بأنفِكَ، ونظرت في عطفِك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متَّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)، هنا يتضح ان انهيار هيبة يزيد وانضاح امره وبداية لتأسيس مشروع المقاومة، وتسترسل عقيلة الهاشميين في خطبتها فتقول: أمِن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن ... وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان ثمَّ تقول غير متأثِّم ولا مستعظم : لأهلوا واستهلوا فرحاً ثمَّ قالوا يا يزيد لا تشل، منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيِّد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذريَّة محمد صلى الله عليه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك زعمت أنَّك تناديهم فلترِدنَّ وشيكاً موردهم ولتودنَّ أنَّك شُلِلتَ وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، ومن هنا يتضح ان زينب عليها السلام فككت شرعية الطغيان وفضحت التناقض الاموي ، فكيف يدعون الاسلام وهم يقتلون سبط نبيهم ، وبهذا جعلت يزيد في قفص الاتهام مذكرة اياه انه من ابناء الطلقاء، وهو مصطلح يذكر الامويين بضعفهم النسبي ، فهم الذين حاربوا النبي ثم عفا عنهم ودخلوا الاسلام خوفاً، فكيف يكون يزيد خليفة للمسلمين وهو ابن من كانوا اعداء للإسلام؟ فهنا فضح للشرعية الاموية واذلال ليزيد امام رعيته، واما قولها ابناء من لفظ فوه أكباد الأزكياء، أي انها نسبت يزيد لابشع فعل في التاريخ، وهو وصمة عار في ثقافة العرب، وكشفت وحشيته الموروثة، وبينت زيف اسلامه السياسي، وماقالته العقيلة زينب لم يكن شتيمة بل هو حقيقة ثابتة وحكم تاريخي على نظام بأكمله، فيلحظ من خلال تحليل الخطبة ان هناك ثلاث اتجاهات رئيسية هي توثيق المأساة بلغة احترافية، وتحطيم شرعية الحاكم، وادانة الظالم.