الخطأ بين الإخفاق والإبداع
عمرو أبوالعطا
تعتبر الأخطاء من الظواهر التي طالما ارتبطت بالسلب والقصور، سواء في مجالات الفن، الأدب، العلم أو الترجمة ، لو نظرنا بعمق إلى طبيعة الخطأ لكشفنا عن دوره المحوري في دفع عجلة الإبداع والتغيير الثقافي ، يعيد الخطأ تشكيل الحدود القائمة، وينتج عن انحرافه إمكانات جديدة تعزز الأنظمة المعرفية والجمالية.
يوصف الخطأ في الثقافة الإنسانية بأنه لحظة إخفاق أو انحراف عن الصواب، غير أن التتبع التاريخي لمسارات الإبداع يشير إلى أن العديد من التحولات المعرفية والفنية الكبرى بدأت من هفوات لم تكن مقصودة ، هذا ما يجعل من الخطأ، ليس مجرد أزمة يجب تفاديها، بل أداة لإعادة ترتيب المفاهيم وإعادة صياغة الأشكال الثقافية، وقد تكون وسيلة لاكتشاف إمكانات جديدة كانت طمست تحت ضغط النماذج الراسخة.
مثلا في الفنون البصرية، يمكن الإشارة إلى بداية المدرسة الانطباعية، التي قوبلت في بدايتها بالرفض والنقد الحاد، إذ اعتبر النقاد وقتها أن لوحاتها تفتقر إلى الدقة والمهارة الأكاديمية. إلا أن ما اعتُبر ضعفًا أو خطأ في الأسلوب، أصبح لاحقًا سمة مميزة لحركة فنية كاملة، أعادت تعريف المفاهيم التقليدية للجمال، وأحدثت أثرًا عميقًا في مسار الفن الحديث ، وبالمثل في المدارس الأدبية، حيث تعرضت الكتابة الشعرية الحرة في بداياتها إلى انتقادات مماثلة، لكنها أسهمت لاحقًا في إعادة النظر في مفاهيم الوزن والإيقاع، وفتحت المجال لتجارب لغوية جديدة في التعبير عن التجربة الإنسانية.
اما في مجال الترجمة، يمكن القول إن الخطأ يتخذ أبعادًا مركبة، فهو لا يقتصر على الانزلاق اللغوي أو الإخفاق في المعنى، بل يتعلق بتأويل النصوص عبر سياقات ثقافية متباينة ، فالترجمة ليست مجرد تحويل للكلمات من لغة إلى أخرى، بل عملية إعادة بناء للمعنى داخل بنية ثقافية مغايرة. وغالبًا ما يتعرض المترجم لضغوط تتعلق بإرضاء القارئ في الثقافة المستقبِلة، مما يدفعه إلى إجراء تغييرات على النص الأصلي، قد تبدو من وجهة نظر حرفية أخطاء، لكنها من حيث التأثير الثقافي، تمثل إعادة صياغة مقبولة ضمن نظام ثقافي مختلف. وقد ساهمت بعض هذه الترجمات في إدخال مفاهيم جديدة إلى ثقافات لم تكن تعرفها من قبل، وهو ما يجعل من "الخطأ" هنا عاملًا في خلق التفاعل والتداخل الثقافي، وليس مجرد خلل.
يقدّم التاريخ الأدبي الحديث أمثلة عديدة على هذا النوع من الأخطاء الفعالة ، فبعض الترجمات الأولى لأعمال أدباء كبار تمت عبر لغات وسيطة، مما أدى إلى ضياع بعض الدلالات، ولكنها في المقابل صنعت صورة مختلفة لهؤلاء الأدباء داخل السياقات الثقافية الجديدة، وأسهمت في بناء علاقة قرائية مع نصوصهم، حتى وإن كانت العلاقة جزئية أو منقوصة ، وبهذا يصبح الخطأ في الترجمة مدخلًا لإنتاج قراءة جديدة، وليس عائقًا أمام الفهم ، بل إن النقد الحديث يذهب إلى اعتبار بعض "الهفوات" في الترجمة نوعًا من الإبداع، حين يكون المترجم واعيًا للتحول الاسلوبي الذي يقوم به، ومتعمدًا له، ضمن حدود الأمانة للنص الأصلي.
في حقل العلوم والتكنولوجيا، أيضًا، تظهر أهمية الخطأ في نشوء الاكتشافات ، فكم من اختراع أو دواء أو نظرية علمية انبثقت من نتائج غير متوقعة لتجربة ما، أو من فهم خاطئ تم تصحيحه لاحقًا ، في تاريخ العلوم سجلت هذه الأخطاء كخطوات ضرورية في تطور المعرفة، لأن الفهم العلمي لا يتقدم على نحو خطي ومستقيم، بل عبر تصحيحات متواصلة، تتضمن إخفاقات جزئية وتحولات في الرؤية.
الخطأ، إذن ليس خروجًا عرضيًا عن النظام، بل عنصر داخلي فيه، يشارك في إعادة تعريف حدوده من وقت إلى آخر، وعندما نتأمل الأشكال الثقافية المتكلسة، فإنها كثيرًا ما تحتاج إلى زحزحة، تبدأ بخطأ بسيط أو انزلاق غير مقصود، لكنه يكشف عن إمكانات مهملة. في هذا السياق، يمكن النظر إلى الخطأ لا بوصفه علامة على الفشل، بل كإشارة إلى لحظة توتر داخل النظام، تفتح الباب أمام التحوّل، وتعزز من إمكان الإبداع.
من هذا المنظور، لا يكون الخطأ مجرد مسألة شخصية أو فنية، بل حالة ثقافية لها أثر واسع. وهو ما يلاحظه منظّرو الجماليات حين يشيرون إلى أن كثيرًا من التجارب الفنية المعاصرة تعتمد على التشويش أو الكسر أو التكرار غير المنتظم، كجزء من البنية الجمالية المقصودة. تلك الأعمال لا تنشأ من السلاسة، بل من التوتر، ولا تبحث عن التماثل، بل عن المفارقة. وفي بعض هذه الأعمال، تكون "الهشاشة" هي القيمة المركزية، والعيب هو العلامة الفارقة.
كما أن الجماعات الثقافية نفسها تتطور من خلال مراجعة مفاهيمها، وهو ما لا يحدث إلا عندما يخرج خطاب ما عن القاعدة، أو عندما تظهر ممارسة جديدة تصطدم بالأعراف. في هذه الحالة، تصبح الهفوة لحظة تشكيك، تؤدي في بعض الأحيان إلى زعزعة القوالب الجامدة. وبمرور الزمن، تتحول بعض هذه الأخطاء إلى سوابق، ثم إلى معايير، ثم تُنسى أصولها كأخطاء وتُعاد صياغتها كحقائق ثقافية.
إن تأمل فكرة الخطأ في هذا السياق يتيح لنا إعادة النظر في كثير من أحكامنا القطعية، ويؤكد أن الثقافة لا تتطور من خلال الامتثال فحسب، بل من خلال المقاومة، ومن خلال الانحرافات الدقيقة عن المعتاد. قد يكون الخطأ في بدايته مرذولًا أو مرفوضًا، لكنه مع الزمن يصبح بوابة إلى فهم أوسع. الخطأ إذًا لا يُقصى من دائرة التفكير، بل ينبغي أن يُدمج فيها بوصفه إمكانية أخرى، وقد يكون، في أحيان كثيرة، الإمكانية الوحيدة التي تكشف الطريق إلى غير المتوقع.
إن استيعاب الخطأ بوصفه جزءًا لا يتجزأ من دينامية الأنظمة الثقافية والمعرفية يُثري فهمنا لطبيعة الإبداع والتغيير. لا يمكن للثقافة أن تنمو وتتطور من دون تلك اللحظات التي تخرج فيها عن المألوف وتُعيد صياغة القواعد السائدة. بالتالي، يصبح الخطأ ليس مجرد عثرة تُعيق التقدم، بل بوابة للإمكانات الجديدة ورمزًا لمرونة الفكر والتجربة الإنسانية. تبني هذا المنظور يعزز من قدرتنا على التفاعل مع المتغيرات الثقافية والفكرية بطريقة أكثر انفتاحًا وعمقًا.