الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بغداد وعالم المترو المنتظر

بواسطة azzaman

بغداد وعالم المترو المنتظر

محمد عبد المحسن الخفاجي

 

قبل أيام أسعدني خبر عزم الحكومة على بدء خطوات عملية لتنفيذ مشروع مترو مدينة بغداد، وتردد في نفسي قلق من أن يعود المشروع إلى الأدراج ضمن المشاريع المؤجلة ؛ ومبعث القلق هو أن فكرة تنفيذ المشروع ليست جديدة بل تعود إلى أكثر من أربعين سنة،حيث سبق أن انتهت في العام ١٩٨٠ أعمال فحص التربة وحدد مسار خط المترو ومواقع محطاته وكان من المخطط له أن تنتهي المرحلة الأولى منه في العام ١٩٩٠ ويبدأ تشغيل الخط الدائري حول بغداد لتكون عاصمتنا العزيزة ثاني مدينة عربية تشهد افتتاح شبكة مترو بعد القاهرة ( التي افتتح المترو فيها في العام ١٩٨٧ بدعم فرنسي تمثّل في تمويل نسبة ٦٠ ٪؜ من الكلفة وحضور الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك حفل الإفتتاح ) لتبدأ بعدها مرحلة تنفيذ شبكة خطوط داخل الدائرة الكبيرة لربط أحياء بغداد ببعضها، ورحنا نتخيل انتهاء هذه المرحلة بما تعنيه من تيسير الإنتقال من الكاظمية إلى الباب الشرقي أو من بغداد الجديدة إلى الأعظمية أو من باب المعظم إلى الكرادة مثلاً في دقائق معدودة بيسر وأمان دون منغّصات ، لكنّ ظروف الحرب وما تلاها أبعدت الحلم الجميل عن المخيلة .

للمترو منافع ومزايا عظيمة في الحياة الحديثة ، فهو يوفر الأمان ويحمي الأرواح والأبدان التي تتعرض للموت وللأذى بفعل حوادث السيارات المهلكة الكثيرة فهو يسير تحت الأرض، وفوقها في بعض أجزاء خطوطه،دون تقاطع ، وحتى في حالات التقاطع القليلة يقوم نظام ألكتروني دقيق بتنظيم الحركة بأمان وانسياب ودون توقف سير المترو ، ويقلل حاجة الناس إلى استخدام سياراتهم الخاصة ويخفف عنهم كلف النقل إلى حد كبير بفعل أجور النقل الزهيدة مقارنة بأجور سيارات الأجرة وكلف استخدام وصيانة السيارات الخاصة، ويقلل إزدحام الطرق كثيراً .

وللمترو دور واضح في الحياة الإجتماعية يجعله جزءً مهماً من تاريخ وتراث المدينة التي يخدمها، فهو البديل لاستخدام السيارة الخاصة على نحو يجعله رفيقاً مهماً لحركة الفرد ونشاطه العملي والشخصي حيث يبدأ معظم أهالي المدينة صباحهم باستخدامه في الذهاب إلى الجامعة والمدرسة ومكان العمل، وهم في ذلك يوفرون على أنفسهم عناء قيادة السيارة ومواجهة أحوال الطقس من حر أو برد أو ثلوج أو أمطار أو ضباب فتجد الواحد منهم في عربة المترو هادئاً يصل إلى المكان المقصود وهو يطالع جريدة الصباح أو يقرأ كتاباً أو يقلّب هاتفه المحمول، وبذات الهدوء والراحة يعود إلى مسكنه .

ويقدم المترو خدمة الدلالة على الأماكن، فحين تكون على موعد مع صديق مثلاً أو يود هذا الصديق أن يزورك وهو لا يعرف موقع سكناك يكون الحل السهل بأن تخبره باسم أقرب محطة مترو إلى مسكنك ثم تنتظره في المحطة في الموعد المتفق عليه ليأتيك مستدلاً بخريطة الخطوط التي يجدها على جدران المحطات وداخل عربات المترو .

ويحقق المترو احترام الوقت وتنظيمه، فأنت تضمن الوصول إلى الوجهة التي تريدها في الوقت المطلوب دون أن تتعرض للتأخير بسبب مفاجآت ليست في الحسبان كقطع الطريق للصيانة أو عطل السيارة أو الإزدحام المفاجئ لشتى الأسباب .

وتجد في المترو ملاذاً تحتمي به من ظروف الطبيعة القاسية كتساقط الثلوج أو الأمطار ولهب الشمس أو شدة البرد بأن تدخل إلى أقرب نفق مترو للراحة باحثاً عن الدفء في الشتاء والنسمة الباردة في الصيف .

وفي دول متقدمة صارت أنفاق المترو مكاناً لنشاطات ثقافية متنوعة كمعارض الفنون التشكيلية ومعارض الكتب وعزف الموسيقى والغناء.

ومع المترو لنا مواقف وذكريات أذكر منها أنني كنت أيام الدراسة في فرنسا أحمل بطاقة اشتراك شهري في مترو باريس تتيح لي التنقل عبر كل خطوطه طيلة الشهر دون تحديد لعدد مرات الإستخدام ، وفي أحد الأيام كنت راكباً فصعد مفتش للتأكد من أن كل الركاب قد قطعوا تذاكر ( كان البعض يعبر الحاجز ويدخل إلى  رصيف المحطة ليتفادى ماكنة فتح البوابة التي لا تفتحها إلا باستخدام التذكرة، وبذلك يركب  المترو مجاناً ) وحين وصل إليّ المفتش ناولته بطاقة الإشتراك مطمئناً، وإذا به يقول: لكنك الآن تجلس في الدرجة الأولى !، فانتبهت حينئذٍ إلى أنني أجلس على مقعد وثير ،وقد كان ركوبي في عربة الدرجة الأولى سهواً فقلت له إنني لم أنتبه إلى كون هذه عربة الدرجة الأولى، فكان ردّه: كل الناس يقولون هذا ، عليك دفع غرامة ٣٠ فرنكاً ( كان ذلك قبل استخدام عملة اليورو ) فلم يكن أمامي سوى دفع مبلغ الغرامة ليناولني المفتش وصلاً بالدفع . ومرة كنت استقل مترو القاهرة قادماً من حي المعادي إلى ميدان التحرير ( محطة أنور السادات ) ظانّاً أن تذكرتي تتيح لي الوصول إلى نهاية الخط كما هي الحال في خطوط المترو في أوربا، ولم أكن أعرف أن الأجرة هناك مجزّأة حسب عدد المحطات التي يمر بها الخط ، وقبل الوصول إلى محطة ميدان التحرير خطرت ببالي فكرة تأجيل نزولي إلى المحطة التالية ( محطة حسني مبارك ) حيث منطقة الفجالة التي تقع فيها مكتبة دار المعارف ومكتبات أخرى كي أشتري بعض الكتب ( كانت المنطقة في الماضي تشبه في هويتها وطبيعة محلاتها شارع المتنبي ببغداد )، وعند الوصول إلى المحطة المذكورة لم تفلح التذكرة في فتح بوابة الخروج بسبب تجاوزي الحد الذي يسمح به المبلغ المدفوع ، وإذا برجل شرطة يقف على رصيف المحطة ويرقب المشهد ومعه كلب بوليسي يقترب مني ويخبرني أنني ارتكبت مخالفة ويطلب مني دفع غرامة مقدارها عشرة جنيهات ( كان ذلك في التسعينيات )، وحين أخذت أناقشه في الأمر كان جوابه بالسؤال : " يا أستاز حتدفع الغرامة الفورية والّا أعمل محضر ؟! "، فدفعت مبلغ الغرامة وأنا أقنع نفسي بأن هذا الموقف قد زادني خبرة في التعامل مع المترو الذي أحبه !.

وثمة موقف آخر مرّ به زميل كنت قد نصحته باستخدام المترو في تنقلاته في القاهرة لمزاياه الكثيرة، ولم يكن يدور في خلدي أن في كل قطار مترو مصري عربة خاصة للنساء يحظر على الرجال الركوب فيها - بخلاف المترو في دول الغرب الذي تكون عرباته كلها مختلطة للجنسين - ؛ وبعد ركوبه المترو لأول مرة عاد ليعاتبني لأنني لم أنبهه إلى ذلك إذ قاده الحظ إلى الصعود إلى عربة النساء ليفاجأ بصراخ النسوة المصريات في وجهه واحتجاجهن عليه وطلبهن منه الخروج من العربة !.

والواقع أنّ لوسائل النقل في حياة المواطنين ذكريات ومواقف وحكايات ، ومثلما كان لباص مصلحة نقل الركاب في حياتنا البغدادية وذاكرتنا ذكريات وحكايات ونكات طريفة حتى أن باص المصلحة أخذ مساحة في السينما من خلال فيلم ( الجابي ) وفي الغناء الشعبي عبر منولوج ( يالله يا جابي انطيني حسابي ) سيترك المترو في الذاكرة العراقية في المستقبل الكثير، ولكن متى نرى أنفاقه ممتدة ومحطاته تزدحم بالناس وعرباته وهي تسير ؟.


مشاهدات 63
الكاتب محمد عبد المحسن الخفاجي
أضيف 2025/07/06 - 3:09 PM
آخر تحديث 2025/07/07 - 2:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 65 الشهر 3504 الكلي 11157116
الوقت الآن
الإثنين 2025/7/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير