من أدب السجون
قصة..ثورة الموتى
ظافر جلود
يلقب ابو كريم بسيط وعفوي جدا يميل لخدمة النزلاء بكل طيبة، وحينما سألته عن اسمه ضحك وقال ابو كريم النجفي.. كانت مهنته الأساسية تسخين الماء في معتقل سجن الخاصة في ابو غريب وبيعه للسجناء الذين يرمون التحمم خاصة في ايام الجمع او قبل المواجهة مع عوائلهم لكي يبدو بكامل نظافتهم ولياقتهم امام زوجاتهم او امهاتهم واولادهم..
فبعد أن استسهل عملية تسخين الماء، أصبح الماء الحار مطمعًا في أيام الشتاء حتى لغير المرضى من السجناء مع ضعف الأجساد وقسوة البرد. وبدلًا من الإناء الصغير صار برميلُ ماء بلاستيكيٌّ هو المستضيف لهذه العملية المحظورة، وجرت الأمور كما كان يشتهي السجناء ويرغبون إلى أن جاء اليوم الموعود. ففي يوم شتائي محشوٍّ بالبرودة ضاعف قرسه وَهَن الأبدان ورثاثة اللباس وتهالك الفُرُش وقلة الأغطية التي ما فتئنا نستعين بها في اليقظة والمنام لردِّ غائلة البرد عنَّا. وبينما كان الماء يغلي بأقصى ما يمكن له ذلك ويشتد فوران الماء في غفلة من العيون، تحلَّق قربَه بعضُ السجناء يستلذون بدفء يبعثه البخار المتصاعد وهو ينفذ بسخونته إلى عِظامهم المنخورة من المرض والبرد.
وبينما هم يتسامرون ضاحكين وإذا بصرخة فزعٍ تملأ كلَّ جوانب زنزانة الحجر الصحي تتبعها صرخات. الممر الضيق يزدحم بحشدٍ يعدو على غير هدًى وعلى وجه أفراده سيماءُ فزع ورُعب تُغطِّيهم سحابةٌ ضخمة من بخار كثيف كأنها دُخان أبيض. وسيطر الذهول على الجميع وظن البعض من السجناء أن رجال الأمن شنُّوا هجومًا لقتل السجناء، وما هي إلَّا دقائق حتى تبيَّنت الكارثة ولاحَ جزءٌ من تداعياتها الحقيقية.ابو كريم من فرط كرمه ومحبته احيانا يعطي الماء الساخن للسجناء دون مقابل خاصة إذا عرف ان ذلك السجين بلا مورد او فقير الحال.. سألته لماذا تفعل ذلك وانت ايضا فقير الحال وتبدأ بالعمل منذ الصباح الباكر تسخن الماء وتتنقل بين الحمامات في السجن.. قال وهو ويبتسم هذا ليس كثيرا على سجين لا حول له ولاقوه من حكومة ودولة وحزب يظلمه ويملأ بهم السجون وانت ترى بعينك سجناء من قال كلمة بحق ظلم رئيس النظام وحزبه الفاشي او ولديه المدللان او من زار مرقد الإمام الحسين وأخ العباس ((عليهما السلام) اومن ذهب إلى النجف لزيارة امير المؤمنين الإمام علي (ع) .. حتى الأخوة الكرد وغيرهم من السياسيين تعقبهم النظام وعواد البندر وزج بهم في السجون واحيانًا مقصلة الاعدام..
يستذكر أبو كريم الأيام الأولى لاعتقاله في امن النجف ثم ترحليه بعد الحكم عليه الى سجن الخاصة في أبو غريب، كان الممرُّ ذاتُه الذي دخلنا منه أولَ يوم عند وصولنا السجن، على جنبَيه توجد أقسامٌ لسجناءَ آخرين ذوي قضايا لها علاقة بالسياسة أو الأمن الخارجي، كذلك متَّهمين بقضايا الانضمام إلى تنظيم معارض. كانوا يحظَون بفرصةِ مواجهة أهاليهم في كل شهر مرة واحدة، ولديهم حريةٌ أوسعُ بالحركة بإمكانهم التمشِّي في الممرات وفي ساحة كبيرة بحجم ملعب كرة قدم، يتعرَّضون للشمس يوميًّا ويطبخون أكلَهم بأنفسهم، وكلُّ واحد منهم له سريرٌ خاصٌّ أو مكانٌ خاص، أحيانا تكون الأسِرَّة متعددةَ الطوابق إلَّا أنه مع ذلك يبقى لكل واحد منهم مكانُه الخاص، وربما في فترات اكتظاظ السجن لا يجد بعضُهم مكانًا ينام فيه، لكن ليس بالطريقة التي كنَّا نُعاني منها في الموقف، فهم في حالٍ بالنسبة لنا كان يُعَد فردوس ونعيمًا. لا يتوهمنَّ أحدٌ أنهم كانوا مرفَّهين فعلًا، إنما مَن ضُرب بالموت يرضى بالعمى.
يستعدل في جلسته بو كريم ثم يواصل: انها ايام سوداء ستنجلي بأذن الله.. وسوف افشيك سرا وقد اطمئن قلبي إليك.. انني كنت سجين (بالقافات) المظلمة هناك الالاف من اعضاء الأحزاب الإسلامية المعروفة.. دعوة، وإخوان مسلمين.. وفاطميين.. وشيوعيين.. وقوميين ناصريين.. لكن قد لا تشعر بهذه المسميات حينما ينادي المؤذن حيا على الصلاة.
قلت له هناك اختلاف بالعقائد والتوجهات..
قال، لان الظلم واحد والكفاح من اجل العراق يجمع السجناء.
ثم سألته كيف أخرجوك من هذا الجب المظلم القاسي..
قال بعد ان عرفوا بأنني ليس ضمن الاحزاب الإسلامية، بل (هرميل ) أتكلم.. ضحكت وانبسطت مع ابو كريم لان سوالفه ممتعة عن المقابر والسحر وزيارات الأهل حيث كان يرافق زوار المقابر خاصة الجدد منهم الذين لا يعرفون موقع موتاهم لأنه خبير بالأمكنة..
ابو كريم كم حكمك سألته..
قال.. مؤبد (20 سنة) قضيت منها خمس سنين وعمري الان 60 سنة ويمكن أموت بالسجن..
-قلت له عمرك طويل والنظام أيامه قليلة.
-ولماذا سجنت؟؟
-ابتسم وقال بأكثر من تهمة... اولا شتم وسب الرئيس والحزب وتحريض الزوار على التظاهر.
وآخر تهمة خرافية هي تحريض الموتى على الثورة.
تحريض الموتى وهم في القبور.. كيف؟
ضحك ابو كريم.. وقال: أنا جاد فعلا قالها لي عواد البندر أنك تحرض الموتى.. لأنك تقص لهم خرافات تثير غضبهم على النظام..
- لكنهم رقاد موتى. كيف ذلك يابو كريم؟
- القاضي كان له قصد في ذلك. انهم الموتى الاحياء الذين لا يسمعون ولا يشعرون بأنهم تحولوا الى موتى.
-وهل ذلك واقع حال يحدث في مقبرة وادي السلام. ربما الاشباح من توحي اليك؟
-قال: لا توجد الأشباح بالمقبرة سوى في القصص، ولكن في مقبرة النجف، وقد قال لي احد القائمين على حفر القبور عن مخلوق غريب مرعب يظهر في المقبرة، أطلقوا عليه اسم «الطنطل» يتكلم مثلما نحن.
وذكر هؤلاء العاملون بمقبرة «وادي السلام» أن هذا الشبح تشابك مع حفاري القبور وجرح وأرعب البعض منهم.
ذلك سمعته بالصغر من والدي ووالدتي حينما يريدون تخويفنا.
-انا لا امزح معك. قال لي القاضي ذلك.. اما مقبرة السلام فهي ساحة للتصدي للنظام ومعقل واختباء المعارضين الثوار.
-لكنها تعرضت للهدم والاندثار من النظام ذاته.
- نعم، مقبرة وادي السلام تعرضت الى هدم الاف القبور من قبل النظام بدباباته وذلك لفتح شوارع لمرورها وقتل ثوار الانتفاضة الشعبانية المباركة.
مع انها تعتبر أكبر مقبرة في العالم وهي عبارة عن مدينة أموات داخل مدينة، واستحقت هذه المدينة الصامتة لنحو 1500 عام لقب «وادي السلام “وان ظهور وحش، أو شبح يفزع الناس لأنه يتجول بين القبور، مما أثار الرعب لدى الزوار وحفاري القبور. لم يكن سوى كذبة يحاول بها النظام تخويف الناس.
-هل رأيت كل ذلك
-اعتقد بفهمي وثقافتي المتواضعة، أن هذا الوحش يجسد واقع العراق الحالي، الذي أضحى مسرحا للقتال والدم والموتى من الشباب في الجبهات، وان خوف النظام ان تتسرب هذه الوقائع للشعب.
لان مقبرة «وادي السلام» التي يرقد فيها حوالي أكثر من خمسة ملايين شخص وقرابة خمسين ألف جثة سنويا، وأنها تتلقى أربعة آلاف جثة في غضون شهر واحد وخلال الحرب ضد إيران كان حفارو القبور في النجف يدفنون جثث حوالي مئة مجند يوميا، قُتلوا كلهم بالحرب..
-وضع أبو كريم يده فوق خده. وأمعن بالنظر لي قال.. وحينما انقل تلك القصص للزوار اعتبرها النظام بأنني معارض الحرب وهذه كشف للأسرار واثارة الفوضى.
_ المجموعة القصصية (مذكرات سجين سياسي 2)