الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
انسحاب التيار الصدري وغياب الشركاء: المشهد الانتخابي تحت المجهر

بواسطة azzaman

انسحاب التيار الصدري وغياب الشركاء: المشهد الانتخابي تحت المجهر

طالب محمد كريم

 

في بلدٍ يعاني من فائض في الخطابات السياسية وفقرٍ في الثقة الوطنية، جاء انسحاب التيار الصدري من الانتخابات المقبلة ليدشّن مرحلة جديدة من الانكفاء السياسي الطوعي، لم تلبث أن تتابعت معها انسحابات لزعامات أخرى كانت يوماً ما تمثل أركاناً في مشروع الدولة العراقية ما بعد 2003. فبعد التيار، أعلن مصطفى الكاظمي انسحابه، تبعه حيدر العبادي. لم يعد المشهد مجرد تنافس على مقاعد، بل تحوّل إلى نزاع على مشروعية النظام نفسه: من يُمثّل من؟ ومن يحكم من؟ ولماذا تستمر لعبة لا قواعد فيها ولا جمهور حقيقي لها؟

التيار الصدري، وهو القوة الشعبية الأكبر، كان قد حاز الكتلة الأكثر عدداً في انتخابات 2021، لكن انسحابه الكامل من البرلمان ثم من الحياة السياسية أعاد تشكيل المعادلة من جديد. اختار التيار أن يغادر ساحة اللعبة، رافضاً البقاء في عملية سياسية يراها غير قابلة للإصلاح، ويرفض الانخراط في ترتيبات تُفضي إلى تسوية مع (خصوم المشروع الإصلاحي)، كما يصفهم. لم يكن ذلك مجرد انسحاب احتجاجي، بل إعلان عن يأس جذري من بنية العملية السياسية كما هي.

تبِعَ هذا الموقف انسحاب مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء السابق، الذي كان يُراهن على تأسيس تحالف وطني مدني قادر على كسر ثنائية الإطار التنسيقي والتيار الصدري. لكن فشل هذا المشروع في الاستقطاب، إضافة إلى ضغوط إقليمية، دفع بالكاظمي إلى مغادرة الحلبة بصمت.

ولم يكن انسحاب حيدر العبادي أقل دلالة؛ فرئيس الوزراء الأسبق، الذي انتصر على داعش عسكرياً، لم يستطع أن ينتصر على التصدعات الشيعية سياسياً. حاول أن يقدم (النصر)كخيار ثالث، لكن الزمن السياسي كان قد قسّم الساحة إلى محورين رئيسيين: الأول يتمثل في قوى الإطار التنسيقي الذي يُنظر إليه غالباً كقريب من طهران، والثاني يتجسد في التيار الصدري الذي اختار الانسحاب من العملية السياسية، وذلك بعد القطيعة مع أطرافٍ كان قد جمعه بها سابقاً تقاطع مرحلي في الرؤى والمواقف، قبل أن تتباين وجهات النظر بشأن آفاق العملية السياسية وإمكان إصلاحها من الداخل. وبهذا أُغلقت المساحة الوسطية التي كان يمكن أن تشكل جسراً بين الاتجاهين، ووجدت القوى المدنية والإصلاحية نفسها محاصَرة بلا أفق سياسي واضح.

هذه الانسحابات المتتالية لا تعني فقط فقدان أسماء معينة، بل تكشف عن أزمة أعمق في بنية النظام السياسي العراقي: أزمة تمثيل، وأزمة مشروعية، وأزمة ثقة. فإذا كانت الانتخابات هي وسيلة التغيير السلمي، فما معنى انتخابات تنسحب منها القوى الإصلاحية؟ وإذا كانت السياسة هي فن الممكن، فكيف يكون ممكناً أن تبقى في حلبة لا قوانين فيها سوى الغلبة العددية، والمساومات المصلحية، والتحاصص؟

من جهة أخرى، يعيش المكون السني تقاطعات داخلية تُعقّد المشهد أكثر، فبينما تجري لقاءات سياسية في تركيا تهدف إلى بناء تحالف سني موحد، تبرز مخاوف حقيقية من أن تتحول هذه اللقاءات إلى استقواء خارجي يُضعف مفهوم السيادة الوطنية. فبدل أن تُنتج تلك الاجتماعات توحيداً للموقف السياسي السني، قد تُعمّق الفجوة بين بغداد والمحافظات الغربية، وتُعيدنا إلى لعبة المحاور الإقليمية، حيث تبحث القوى عن دعم خارجي بدل توافق داخلي.

في المقابل، بدا الشريك الكردي أكثر ميلاً لإعادة ترتيب أوراقه الداخلية من الانخراط في مشاريع وطنية واسعة. فبينما يعيش البيت الكردي حالة استقطاب حاد بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، تتراجع أولويات بغداد في حسابات الطرفين، لتحلّ محلها ملفات مثل تقاسم السلطة داخل الإقليم، والتموضع المالي والاقتصادي، وتحديد النفوذ في مناطق مثل كركوك ونينوى.

الحزب الديمقراطي، الذي خسر بعض أوراقه بعد قرار المحكمة الاتحادية بشأن قانون النفط والغاز، بات أكثر حرصاً على التفاوض وفق مبدأ (الحقوق الدستورية) لا الشراكة السياسية، فيما يحاول الاتحاد الوطني الحفاظ على علاقاته مع بغداد كطرف موازن، مستثمراً في تحالفاته مع قوى الإطار التنسيقي.

ومع تصاعد الأزمة المالية وتكرار أزمة الرواتب، يبدو أن الشريك الكردي يتحرك وفق مقاربة واقعية لا استراتيجية، ويراهن على نتائج الانتخابات المقبلة لتعديل شروط التفاوض، لا لتقديم رؤية وطنية شاملة. وهو ما يجعل التحالفات الكردية أقرب إلى (حسابات متحركة)من أن تكون (ثوابت شراكة).

أما التيار الصدري، فحتى وإن انسحب، فلا أحد يظن أنه غائب. التيار يمتلك بنية جماهيرية ضخمة، وقدرة تعبوية فريدة، وزخماً شعبياً لا تملكه أي كتلة أخرى. انسحابه لا يعني موته، بل يُشبه انسحاب لاعب قوي إلى خارج الملعب لمراقبة خصومه، واستعادة زمام المبادرة في لحظة يختارها هو، لا خصومه.

هكذا يبدو العراق اليوم وهو يقبل على انتخابات قد تُجرى بغياب أبرز من مثّلوا مشروع الإصلاح والدولة المدنية. وما يلوح في الأفق ليس تنافساً ديمقراطياً بقدر ما هو إعادة توزيع لحصص السلطة ضمن دائرة مغلقة. لكن الخطير أن الشارع العراقي، الذي صبر طويلاً، قد لا يقبل بأن يُستَبعَد مرّتين: مرة حين طُعن بصوته، ومرة حين غابت عنه خياراته. عندها قد تعود الساحات من جديد.

فهل تتجه العملية السياسية نحو لحظة مراجعة حقيقية، أم أن العزوف المتبادل بين الجمهور والنظام سيقود البلاد إلى انفجار غير محسوب؟


مشاهدات 175
الكاتب طالب محمد كريم
أضيف 2025/07/06 - 3:10 PM
آخر تحديث 2025/07/07 - 2:17 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 59 الشهر 3498 الكلي 11157110
الوقت الآن
الإثنين 2025/7/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير