الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شارع الرشيد..حين تتجوّل الذاكرة على أرصفة الزمن

بواسطة azzaman

شارع الرشيد..حين تتجوّل الذاكرة على أرصفة الزمن

وليد الحيالي

 

في قلب بغداد، حيث تتشابك الحكايات وتتدلّى الذكريات من نوافذ الزمن، يمتدّ شارع الرشيد كشريانٍ نبيل، لا يكتفي بنقل المارّة بل ينقل إليهم عبق مدينةٍ كانت تُعدّ قلب العروبة النابض، وعقلها المضيء.

نشأ الشارع عام 1916 بأمر من خليل باشا، ليسهّل حركة العربات العسكرية العثمانية، فسُمي يومها “خليل باشا جادة سي”. ومع الاحتلال البريطاني غُيّر اسمه إلى “شارع هيندنبرغ”، قبل أن يستعيد شيئًا من مجده عام 1936 حين اقترح المؤرخ الفذ مصطفى جواد تسميته باسم “شارع الرشيد”، تكريمًا للخليفة العباسي هارون الرشيد. ومنذها، صار هذا الشارع مرآة لبغداد، ومحفوظةً تمشي على الإسفلت.

الهندسة… لغة الطابوق والزمن

يمتد شارع الرشيد من باب المعظم إلى الباب الشرقي، بطول يقارب أربعة كيلومترات، لكنه في وجداننا أطول من ذلك بكثير… لأنّه يمتد في الذاكرة، في الأغاني، في المقاهي، في الخطى التي حملتنا شبابًا، وأودعتنا شيبًا.

مبانيه تتماهى بين الطراز العثماني والرؤية الغربية، والأقواس التي تمتدّ كأذرعٍ تُظلل من يمشي تحته وتحتويه، وكأنّ الشارع أمٌ حنون تخاف على أبناء المدينة من لهيب القيظ. ولم تمنعه تعاريجه البسيطة – احترامًا لمساجد كجامع مرجان – من المضيّ في البناء، مستندًا إلى أكثر من ألف عمود، كل عمود منها يحمل سرًا، أو دمعة، أو نكتةً قالها بغداديّ ذات مساء.

معالمه… مناراتٌ للروح وأصواتٌ للزمن

جامع الحيدرخانة، ذاك الذي شهد منبره أول خطبة وطنية ضد الاحتلال عام 1920، لا يزال شامخًا. وإلى جواره جامع مرجان، وسيد سلطان علي، وجامع حسين باشا. وعلى مقربة، تتنفس مدرسة شماش اليهودية حنينًا إلى بغدادها التي لم تخن أحدًا، لكنها خُذلت كثيرًا.

مبنى عبود الذي صممه المعماري رفعت الجادرجي عام 1955، وسينما الزوراء التي حملت الأضواء الأوروبية إلى قلوب البغداديين، والمقهى الذي جلس فيه الزهاوي والجواهري ونازك الملائكة… كلها شواهد على أن هذا الشارع لم يكن ممرًا فقط، بل كان مسرحًا للحياة.

الكعك… ذاكرة لا تُؤكل بل تُعاش

وإن كنت سأتوقف اليوم عند ما هو أبسط من السياسة والفن، لكنه أعمق في الذاكرة… فسأتوقف عند “كعك السيّد”.

محل صغير في الحيدرخانة، أسسه السيّد حسين علي الدراجي السامرائي، من مواليد 1859، هاشميّ النسب، واسع الثقافة، يتقن العربية والفارسية والكردية والتركية، رجل بدأ حياته بزازًا، ثم ترك الأقمشة واتجه للكعك، متأثرًا بالإيرانيين الذين برعوا في هذه الصنعة.

أسّس أول فرن له في “راس القرية” بشارع الرشيد، ثم انتقل قرب ساحة الرصافي، حتى استقر به المطاف في عشرينيات القرن الماضي في موقعه الشهير قرب جامع الحيدرخانة. وكان بناء المحل حينها بسيطًا، من الخشب وحصران القصب، حتى أعاد بناءه عام 1937 بطابوق وشيلمان، وأضاف فوقه فندقًا أسماه “فندق أم الربيعين”.

بعد وفاته، ورث المحل ولداه، لكن الخلاف دبّ بينهما، فتم تقسيم المحل إلى اثنين، كلٌّ يرفع اليافطة نفسها تقريبًا: “كعك السيّد الشهير… احذروا التقليد، لا فروع لنا”.

كنت أمرّ عليه يوميًا من 1970 حتى 1976، حين كنت موظفًا في البنك المركزي. وبعد الدوام، أشتري كعكي المحبّب، أبدأ بالمحل الأول، أتناول قطعتين، وأقول للبائع مازحًا:

ترى المحل الثاني كعكه أطيب.”

فيغضب ضاحكًا:

عمي هذا… ما يعرف، أني معلّمه!”

فأبتسم، وأذهب للمحل الثاني، وأعيد المزحة:

ترى الأول أطيب.”

فيرد:

هذا مّا يعرف شي… أني علّمته!”

وكانت هذه المداعبة البغدادية البسيطة تكفيني لأحمل كيسي الصغير، وأمضي به إلى مقهى البلدية، حيث أتناول الكعك مع كأس شاي وأملٍ مؤجّل، قبل الذهاب إلى الجامعة.

شارع الرشيد… ليس شارعًا فحسب

شارع الرشيد ليس مجرّد معبر، بل هو مخزن أسرار بغداد، مسرحها، مقهاها، مكتبتها، وسرير حلمها الطويل. هو شارع حين تمشي فيه، لا تسمع فقط وقع أقدامك، بل تسمع صدى من سبقك، وترى ظلال من أحبّوه… وترتجف قليلًا، لأنك تعرف أن بغداد، مثل شارعها، لا تُنسى… وإن نُسيت

 


مشاهدات 87
الكاتب وليد الحيالي
أضيف 2025/07/06 - 2:46 PM
آخر تحديث 2025/07/07 - 8:36 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 248 الشهر 3687 الكلي 11157299
الوقت الآن
الإثنين 2025/7/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير