التأطير الإعلامي وحدود الحفاظ على المنهجية العلمية
محسن عبود كشكول
تُعد نظرية التأطير الإعلامي من أبرز النظريات التي تسلط الضوء على كيفية تقديم وسائل الإعلام للموضوعات وتأثير ذلك على الجمهور. ويُعزى الفضل في تحديد الأُطر التحليلية الأساسية إلى روبرت إينتمان، الذي حدد ستة أُطر رئيسة تُستخدم كمنهجية قياسية لتحليل المحتوى الإعلامي، وهي: الإطار الاستراتيجي، إطار المسؤولية، الإطار الأخلاقي، إطار الصراع، إطار التعاون والنتائج الاقتصادية، وإطار الاهتمامات الإنسانية.
مع ذلك، لوحظ في السنوات الأخيرة ابتعاد بعض الباحثين عن الالتزام الصارم بهذه الأُطر، وابتكار أُطر جديدة أو تعديل الأُطر الأصلية بشكل يخالف الحدود التي وضعها إينتمان. وهذا الخروج عن الإطار المنهجي الموحّد يطرح إشكالية مهمة تتعلق بدقة نتائج البحوث الإعلامية، ويفتّت النظرية ويُصعّب مقارنة الدراسات المختلفة، وهو ما سنناقشه في هذا المقال.
في البداية لابد من فهم أن هذه النظرية حظيت بتطوير ملفت فيعد (رفنج جوفمان) أول من وضع الأساس النظري للمفهوم في علم الاجتماع، ثم جاء (روبرت إنغلز) ليدخل عليها تطورات لتكون ملائمة لمجال الإعلام والاتصال، بينما سعى (جورج لياو) إلى ربطها بالخطاب السياسي واللغوي، ونحن في الاعلام يهمنا دور روبرت إنغلز (Robert Entman) في نظرية الأُطر (Framing Theory) لأنه دور مهم ومحوري، خصوصًا في مجال الإعلام والاتصال. لأنه هو الذي قدم تعريفًا واضحًا ومحددًا للتأطير الإعلامي وبيّن كيف تعمل الأُطر في عملية الاتصال.
تعريف التأطير
فكان دور إنغلز في نظرية الأُطر يتمثل في تعريف التأطير بدقة في ورقته الشهيرة عام 1993م (التأطير: نحو توضيح نموذج مجزأ) ، حيث تضمنت اطارًا واضحًا لفهم كيفية عمل الأطر في الإعلام، ثم قدم أدوات لتحليل التأطير بشكل منهجي، لذلك فهو يعد مرجعًا أساسيًا لكل من يدرس التأطير الاعلامي أو يحلل المحتوى.
المشكلة التي يقع فيها بعض (المقلدين) هو وضع أطر وقولبة النص على وفق رؤية القائم بالتحليل وهو بذلك سيختلف مع الوسيلة وكاتب النص الذي يلتزم بأطر إينتمان، فمنهجيا وحسب نظرية الأطر فإن بعض الموضوعات تكون ضمن الاهتمام العام للوسيلة ويكون تأطير الموضوعات واحد وهو الاطار العام، فمثلا كل أحداث القتل التي يقوم بها مسلمين في أوروبا يتم تأطيرها من قبل (CNN) هي أعمال ارهابية حتى لو قام بها مختل عقليًا، وهذا يعكس سلوكًا إعلاميًا شائعًا، خاصة في المؤسسات الإعلامية الكبرى التي لها مواقف سياسية أو أيديولوجية. وهذا الاطار العام يستدعي تطبيق نظرية الأجندة وليس الأطر، في حين نجد من يزج الإطار العام في التحليل ويضع ذلك ضمن الأطر.
وفي المقابل هناك موضوعات أخرى تخضع لأطر محددة وهنا نقصد بـ (محددة) أي لا تخرج عن الحدود التي رسمها إينتمان وهي ستة (الاطار الاستراتيجي، اطار المسؤولية، الاطار الاخلاقي، اطار الصراع، اطار التعاون والنتائج الاقتصادية، اطار الاهتمامات الانسانية)، والالتزام بالمحددة يتبعها الالتزام بتطبيق نظرية التأطير الإعلامي، وآليات التأطير، وهذه الأطر تُستخدم لتحليل كيفية بناء الخبر أو سرد القصة الصحفية، وغالبًا ما تلتزم بها الوسائل الإعلامية بشكل ممنهج، لأن وسائل الإعلام لا تختار الأطر عشوائيًا، بل بناءً على أجندتها السياسية، والجمهور المستهدف، والبيئة الثقافية والإعلامية، واللغة المستخدمة في التغطية.
ولهذا، فإن التأطير الإعلامي ليس مجرد اختيار سردي، بل أداة تأثير معرفي ونفسي على المتلقي، ويؤثر على إدراكه للحدث، وعلى كيفية تفسيره، وبالتالي على مواقفه السياسية والاجتماعية، ومعرفة الفرق بين الإطار الأيديولوجي والإطار التحليلي مهم جدًا عند دراسة الإعلام.
وعليه لابد من إقرار حقائق بشأن الالتزام بأُطر إينتمان الستة فهي من أهم الركائز المنهجية التي تُميّز بحوث التأطير الإعلامي، حيث توفّر هذه الأُطر مفاهيم واضحة تساعد الباحث على تصنيف وتحليل المضمون الإعلامي بشكل موحّد، فالإطار الاستراتيجي: يركّز على استراتيجيات القوى المختلفة في الحدث أو الموضوع. وإطار المسؤولية: يحدد من المسؤول عن المشكلة أو الحدث. والإطار الأخلاقي: يُبرز القيم والمعايير الأخلاقية المرتبطة بالقضية ومجتمعها. ويسلط إطار الصراع: الضوء على الخلافات بكل أشكالها والتوترات بين الأطراف حتى التنافس. وإطار التعاون والنتائج الاقتصادية: يعالج التعاون بين الأطراف والنتائج الاقتصادية للموضوع. والإطار الإنساني: يركز على التأثيرات الإنسانية والاهتمامات الإنسانية المتعلقة بالحدث، والالتزام بهذه الأُطر يضمن توافق المفاهيم، ويُسهل مقارنة نتائج البحوث المختلفة، ويُعزز من مصداقية التحليل.
ونحن عندما نناقش إشكالية ابتكار أُطر خارج أُطر إينتمان في دراسات التأطير الإعلامي: نضع أمام الباحثين تأثير ذلك على النتائج وتداعياته على تفتيت النظرية، لأن الوسيلة الإعلامية أو الباحث حين يبتكر أُطرًا جديدة خارج نطاق الأُطر المحددة، ينشأ خلل منهجي يؤثر سلبًا على البحث العلمي:
تشتت المفاهيم
تفتيت النظرية: يؤدي تعدد الأُطر خارج الإطار المتفق عليه إلى تشتت المفاهيم وعدم وضوحها، ما يجعل النظرية أقل صلابة وأقل قدرة على البناء العلمي المتراكم.
صعوبة المقارنة: تختلف الدراسات في أُطُرها، مما يُصعّب مقارنة نتائجها أو تعميمها، ويقلل من إمكانية إجراء مراجعات منهجية أو تحليلات ميتا (تحليل الميتا يجمع بيانات أو نتائج الدراسات المتعددة ويُجري عليها تحليلًا إحصائيًا موحدًا).
تدهور المصداقية: قد يؤدي الابتعاد عن الأُطر الثابتة إلى دمج الأيديولوجيا أو التحيز في التأطير، ما يضعف مصداقية البحث وموضوعيته.
ونؤكد على أن البحوث الإعلامية حين ما تغادر الأُطر المحددة، يصبح تفسير النتائج أكثر غموضًا، وتقل موثوقية التحليل.
على سبيل المثال، بعض الدراسات التي اعتمدت على أُطر إيديولوجية جديدة لوصف أحداث معينة، مثل «الإرهاب الإسلامي» كإطار عام، لم تُميز بين الحالات المختلفة من الناحية الاجتماعية أو النفسية، مما أدى إلى نتائج متحيزة تفتقر إلى العمق التحليلي. بالإضافة إلى ذلك، هذا الخروج يصعب عليه الباحثون الآخرون تكرار الدراسات أو بناء عليها، مما يبطئ تقدم المعرفة في مجال التأطير الإعلامي.
لذلك لابد من التواصي بأهمية العودة للمنهجية الصارمة لضمان استمرارية تطور نظرية التأطير الإعلامي، والالتزام بالأُطر المحددة بالاعتماد أُطر إينتمان الستة كقاعدة أولى في تحليل المحتوى الإعلامي. ووضع معايير تطبيق واضحة: أي تحديد قواعد واضحة لكيفية استخدام الأُطر وتطويرها إن اقتضى الأمر، دون الخروج الكامل عنها. والعمل على تعزيز التراكم العلمي: من خلال تمكين الباحثين من مقارنة النتائج وتراكم المعرفة بشكل موثوق.
ويبقى الالتزام بالأُطر الإعلامية المحددة من قبل إينتمان ركيزة أساسية لتعزيز جودة البحث في مجال التأطير الإعلامي. والابتعاد عنها لا يؤدي فقط إلى تفتيت النظرية، بل يؤثر بشكل مباشر على دقة وموضوعية نتائج البحوث، ويُصعّب المقارنة بينها. لذلك، من الضروري العودة إلى المنهجية الصارمة، لضمان تطور علمي متين يعزز من فهمنا لتأثير الإعلام على المجتمع.