دور الأفراد لا الشعوب
كامل عبدالرحيم
أنا هنا لأقرأ، وليس لأكتب. أقرأ ما لا يمكنني الوصول إليه ببساطة. أما الكتابة فهي تبدأ غائية واهمة حتى تستقر في النهاية لتهدئة الخاطر، وتنظيم فوضى الأفكار، ولمحاولة اللحاق بموكب الحداثة، حتى تعيد موقعك الملائم لتقرأ.
وهذا ليس تواضعًا، وأدعي أنه لا يدخل في خانة الاستجداء. ببساطة، نحن هنا لإثبات هويتنا، أو انتحال واحدة لمن لا يمتلك مثلها.
النقطة التي وصلنا إليها، في المنطقة وفي العالم، تجعلنا نتأمل، نتفرج أكثر من أي فعل آخر. يكاد أن ينتهي دور الشعوب، إنه دور الأفراد المدعومين من قوى (عميقة).
عام 1970، وهو بداية انغماري الحقيقي بالشأن العام، قرأت عن وفاة برتراند رسل. كانت في نفس الوقت الذكرى المئوية لميلاد لينين، ولا أظنني مخطئًا إذا قلت إن المركز الثقافي السوفيتي المطل على شارع أبي نؤاس قد احتفل بهذه المناسبة، وأنني حضرت جانبًا منه. حتى أذكر أني صادفت، أو قابلت بطريقة ما، الصحافي كاميران قره داغي الذي كان يعمل كمترجم في المركز. رغم ولادة برتراند رسل عام 1872، فهو كان وما زال بالنسبة لي ولد عام 1870 ومات سنة 1970. من هذا التناظر بينه وبين لينين بدأ اهتمامي برسل، وجذبتني بالطبع زيارته إلى روسيا البلشفية والإتحاد السوفيتي الوليد عام 1920، ومقابلته للينين، وما كتبه لاحقًا عن تلك الزيارة.
سبب هذا الاسترجاع مشاهدتي للقاء متلفز قديم بالطبع لرسل. يسأله المحاور عن اسم الفيلسوف الأهم وقتذاك، أجاب رسل بأننا يمكن أن نقول إنه ماركس. ولما قال له المحاور: بماذا تنصح من لا يحب ويؤمن بماركس؟ استطرد رسل بالقول إن الفلسفة يجب أن تهتم بالسعادة واللطف أو العطف (Kindness). ويقول إن ماركس اهتم بجلب السعادة للبروليتاريا، لكنه كان يقصد جعل البورجوازيين تعساء، وهذا ليس من حق ماركس برأي رسل. يلمح رسل هنا بما قاله صراحة عن لينين بعد زيارته التي أشرت إليها، حيث وصفه بالقاسي. إذن، القسوة هي سمة ماركس ولينين، وهذا ليس انطباعًا عابرًا من رجل عادي، لكنه رأي له مريدون من فيلسوف ببصمة عالمية.
انضم برتراند رسل في البداية لحزب العمال البريطاني، لكنه مزق بطاقة عضويته لاحقًا احتجاجًا على موقف الحزب من التسلح والحرب. أما موقفه من القضية الفلسطينية وتضامنه مع النازحين الفلسطينيين، فما زال بكامل صحته وألقه حتى هذا اليوم. بالنسبة لرجل امتدت حياته لقرن كامل وعاشها بكل شغف، حيث تزوج وتطلق أكثر من مرة، وعشق خارج الزواج حتى لم تسلم من عواطفه المشبوبة زوجة إليوت السابقة، بالنسبة لهكذا حياة، كانت مواقفه السياسية بلا أخطاء تقريبًا.
يقول برتراند رسل:
((أنا مضطر لرفض البلشفية لسببين: أولًا، لأن الثمن الذي يتعين على الجنس البشري دفعه لتحقيق الشيوعية عبر الأساليب البلشفية ثمن مرعب للغاية. وثانيًا، من بعد دفع الثمن، لا أعتقد أن النتيجة ستكون ما يريده البلاشفة.))
وأظنه كان محقًا في كل ذلك، ويعود له الفضل بالاستقراء حيث كان من الأوائل الذين توقعوا ولاحظوا تكون (أرستقراطية من البيروقراطية داخل الإتحاد السوفيتي تحاول خلق نظام قمعي وقاس تمامًا).
أنا هنا لأقرأ، وفي العام 1970 تركت برتراند رسل عندما لم ترق لي انطباعاته عن لينين ومضيت بعيدًا. ولا وقت للندم، فهناك ما يكفي للعودة إلى برتراند رسل وبدء القراءة من جديد.