مستقبل الذكاء الإصطناعي في المحاكم العراقية
نوفل مؤيد الحياني
في ظل الثورة الرقمية التي يشهدها العالم، برز الذكاء الاصطناعي كأحد أبرز ملامح التحول التكنولوجي، إذ تجاوز دوره المساعد إلى التأثير في مجالات حساسة، منها القضاء، وإنفاذ القانون، وإصدار الأحكام. هذا التطور، رغم أنه قد يساهم في تسريع الإجراءات وتحسين الأداء، إلا أنه يطرح تحديات قانونية وأخلاقية معقدة، قد تقوّض أسس العدالة إذا لم يتم ضبطه بتشريعات واضحة. في هذا المقال، نسلّط الضوء على المخاطر القانونية للذكاء الاصطناعي، خاصة في السياق العراقي، ونطرح نماذج من الواقع ومواد دستورية ذات صلة.
أولاً: الذكاء الاصطناعي وصُنع القرار القضائي
بدأت بعض الدول المتقدمة باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في تحليل القضايا، واقتراح الأحكام، وحتى التنبؤ بنسبة تكرار الجريمة عند المتهمين، كما في نظام «COMPAS» المستخدم في بعض الولايات الأمريكية. غير أن هذا النوع من التطبيقات أثبت في حالات معينة أنه يحمل تحيّزاً ضد فئات مجتمعية معينة، مثل الأقليات العرقية، بسبب برمجته على بيانات غير متوازنة.
السؤال الذي يُطرح في السياق العراقي هو: هل يمكن السماح بإصدار قرارات قضائية أو أمنية استناداً إلى تحليل آلي غير خاضع للرقابة البشرية؟
هنا تُثار مسألة النيّة والركن المعنوي في الجريمة، والتي يشكل إثباتها شرطاً أساسياً في إدانة او تجريم أي شخص، ووفقاً للمادة (33) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، التي تنص على:
“القصد الجرمي هو توجيه الفاعل ارادته الى ارتكاب الفعل المكون للجريمة هادفاً الى نتيجة الجريمة التي وقعت او اية نتيجة جرمية اخرى.”
فإذا كانت الآلة لا تملك إدراكاً أو إرادة حرة، فكيف يمكن تحميلها المسؤولية، أو مساءلة مطوريها قانونياً عند وقوع خطأ تسبب في ضرر جسيم؟
ثانياً: انتهاك الخصوصية والبيانات الشخصية
الذكاء الاصطناعي يعمل عبر جمع وتحليل كميات ضخمة من البيانات، والتي قد تشمل معلومات شخصية أو حساسة تخص الأفراد، أحياناً دون علمهم أو موافقتهم. هذا يشكل تهديداً مباشراً لحقوق المواطنين في الخصوصية، والتي كفلها الدستور العراقي في المادة (17)، حيث نصت على:
“لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية، بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة.”
معالجات كافية
ورغم أن العراق لم يُقر بعد قانون حماية البيانات الشخصية بشكل واضح، فإن مشروع قانون الجرائم المعلوماتية – الذي ما زال يثير الجدل – لا يتضمن معالجات كافية لمراقبة استخدام الذكاء الاصطناعي أو الحد من توغله على حقوق الأفراد.
واقعة متوقعة: تخيّل أن يتم جمع بيانات العراقيين من منصات التواصل وتحليلها بواسطة خوارزميات لتصنيفهم أمنياً أو سياسياً، دون وجود ضوابط قانونية. هنا يصبح المواطن ضحية لتحليل آلي دون معرفة أو قدرة على الاعتراض، وهذا انتهاك صارخ لحقوق الإنسان من جهة ومن جهة اخرى الكثير من الحسابات الخاصة بالافراد تحمل معلومات غير حقيقية.
ثالثاً: المسؤولية الجنائية – من يحاسب الآلة؟
القانون الجنائي العراقي، كغيره من الأنظمة التقليدية، بُني على أساس المسؤولية الفردية، التي تفترض وجود عقل بشري مدرك وقادر على التمييز بين الفعل المشروع والمجرّم. لكن الذكاء الاصطناعي قد يتسبب بأضرار جسيمة، مثل اتخاذ قرار طبي خاطئ، أو إصدار توصية قضائية ظالمة، أو تشغيل طائرة مسيّرة دون إشراف بشري.
السؤال القانوني المهم: هل نُحمّل الذكاء الاصطناعي المسؤولية؟ أم مطوّره؟ أم الجهة التي اعتمدت عليه؟
هذه الأسئلة لم يُجب عنها التشريع العراقي بعد، ما يستدعي تشريع قانون خاص بالذكاء الاصطناعي من قبل مجلس النواب ، أو إدخال تعديل على قانون العقوبات لتغطية هذا النوع من الأخطاء غير البشرية.
رابعاً: الخطر الأكبر – التلاعب في الأدلة والعدالة الرقمية
الذكاء الاصطناعي قادر اليوم على فبركة فيديوهات وصور وتسجيلات صوتية بتقنية “التزييف العميق” (Deepfake)، وهي أدوات يمكن استخدامها لتلفيق أدلة في قضايا جنائية أو سياسية.
تخيل أن تُقدَّم محادثة صوتية مزيّفة بين متهم وشخص آخر كدليل على ارتكابه جريمة.
ما لم تكن لدى المحكمة الأدوات التقنية لكشف الزيف، قد يُدان شخص بريء استناداً إلى أدلة زائفة، في انتهاك خطير لمبدأ العدالة المنصوص عليه في المادة (19/خامساً) من الدستور العراقي:
“المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة قانونية.”
خامساً: الحاجة لتشريع وطني متكامل اذ تفتقر المنظومة القانونية العراقية حالياً لأي قانون يُنظم الذكاء الاصطناعي أو يُقيد استخدامه، سواء في المجال القضائي، أو الأمني، أو المدني. وهناك حاجة ماسّة إلى:
1. مجلس النواب يتوجب عليه تشريع قانون خاص بالذكاء الاصطناعي يُنظم استخدامه في القطاعات العامة والخاصة.
2. نظام رقابة قضائية وتقنية على البرمجيات المستخدمة في المحاكم أو التحقيق عند ادخالها في العمل القضائي
3. إدخال مواضيع الذكاء الاصطناعي في مناهج كليات القانون والمعهد القضائي.
4. تعزيز الشفافية في استخدام أي نظام تقني يمس حياة المواطن أو حريته.
الخلاصة
الذكاء الاصطناعي قوة جبّارة، لكنها إن تُركت دون إطار قانوني واضح، فقد تصبح سلاحاً ينتهك الحقوق والحريات بدل أن يخدم العدالة.
العراق، وهو يواجه تحولات تكنولوجية متسارعة، بحاجة إلى يقـــــــــــــظة تشريعية تضمن أن يبقى الإنسان – لا الآلة – هو صاحب القرار الأول والأخير في حياة البشر وكرامتهم.