عندليب كربلاء
حسن النواب
بلا موعدٍ كُنَّا نلتقي في غرفة إياد زيني عندما يهبطُ الظلام، نحنُ أصدقاؤه الذين تعذَّبنا كثيراً معهُ في جبهات الحرب، غرفته الصغيرة المطلَّة على زقاق جانبي، هي من بيت أنيق في أحد الأحياء العريقة لمدينة كربلاء، يقطنهُ مع أمه الطيبة وأخيه الأكبر الذي لم ينغِّص ذات يوم صفو لقاءاتنا التي كانت تمتد حتى طلوع الشمس، غرفته الصغيرة بأثاثها البسيط ولوحاته المتناثرة هنا وهناك وفرشاة رسمه التي نسيها على قطعة خشب ملطخة بالألوان وانشغل بدوزنة أوتار عوده قبل حضور الأصدقاء، إياد زيني الجميل بكل شيء والرقيق مثل جناح فراشة والحسَّاس كوتر كمان، هو عازف العود والمغنّي والرسام والخطَّاط، لم يدرس العزف في معهد للموسيقى، ولم يدخل كلية الفنون الجميلة حتى يتعلَّم الرسم، وجد نفسه في عمر المراهقة يعزف ويغني ويرسم ويتسلَّى بهمومه وأحزانه ويدخِّن بإفراط، ومثلما تلتقي سواقي البساتين عند نهر القرية في نهاية المطاف، كُنَّا نلتقي في غرفته الوديعة وتدور على شفاهنا كأس واحدة تطفح بالأسى بين شهقة وأخرى، ودخان سجائرنا يتكاثفُ سُحب رماد فوق رؤوسنا، نبدأ الجلسة بقراءة نصوص شعرية ثم يسود صمت ساحر نستمع خلاله إلى عزف إياد زيني الذي تهجس أنَّ الريشة تضرب على نياط قلبه وليس على أوتار العود، وكان ينزعج ويتوقف عن العزف والغناء إذا ما تناهى إلى مسمعيه أي حديث جانبي من الحاضرين، وحتى يعود إلى مزاجه الرائق كان يحتاج إلى ساعة من الوقت حتى يحتضن العود و يعزف ويغني مرَّة أخرى، في أحايين كثيرة كانت الغرفة تزدحم بالحاضرين، من شعراء، وفنانين، ومعجبين، ومريدين، وكيف لا تزدحم بهم، ما دام يطربون على غناء ينبثق من حنجرة كأنها واحة عنادل، وإياد زيني الذي بعمري واجه الحرب مثلي، فإذا كنتُ أنا قد واجهت الحرب بالشعر ومطالعة الكتب الأدبية، كان إياد زيني قد جابه تلك الحرب الشمطاء بالعزف والغناء والرسم، ثمَّة روح هائجة وأسرار وأفكار خطيرة وهموم قاتلة وتطلعات مشتركة كانت تجمعنا في تلك الغرفة، الصديق غالب مدير الحسابات في التصنيع العسكري الذي طالما كان ينقذ جلساتنا من العوز والحرمان بكرمه السخي، وصديقه ناصر الشاهق كنخلة والذي عرفت أنَّه أصبح لاجئاً في مهجرٍ أوربي، والفنان ماجد شنان عازف الإيقاع الذي كان يفهم مزاج صديقنا إياد زيني أكثر من الجميع، وعلي النوّاب أخي الأكبر الصامت على الدوام، والشاعر الشفيف فاضل عزيز فرمان والقاص المعروف علي حسين عبيد، وجارنا الشاعر الغنائي غير المحظوظ عباس الزبيدي الذي لحَّنَ وغنّى لهُ إياد زيني أكثر من أغنية، ومنها أغنية «مزعلني وعمري مراضيك»، وأغنية ثانية بعنوان «اعذرني حبيبي» كُنَّا نحرص على سماعها من إياد كلما التقينا، أضف إلى ذلك تلحينه لأنشودة كربلاء الشهيرة «الماء والهواء والحب كربلاء» والتي كتب كلماتها الدكتور الشاعر محمد عبد فيحان، ولهذه الأنشودة حكاية طويلة ومؤثرة كنتُ قد كتبت عنها في زاويتي الأسبوعية لجريدة الزمان قبل عشرات السنين. وهكذا ظلَّت غرفة صديقنا إياد زيني واحة عذبة تجمعنا في سنوات الحرب والحصار، والتي شهدت ولادة الكثير من قصائدي فيها. كان عندما يضيق بنا المكان نهجُّ إلى ضفاف بحيرة الرزازة وهناك يتصاعد غناء إياد زيني متناغماً مع موج البحيرة المستكين، ذات يوم زرته بمفردي إلى غرفته ورأيتهُ يواسي أحزانه وهو يعزف ويغني أغنية «بعد إيه» لعبد الحليم حافظ، لكنه فاجئني بلوحة بديعة رسمها لوجه فنانة شاركتني في مسرحية الشاعر والحرب التي عرضتها على مسرح حقي الشبلي في كربلاء خلال سنوات الحرب مع إيران، كانت اللوحة منفَّذة بالزيت وكانت ضربات الفرشاة حادَّة على أديم اللوحة وثمَّة تكثيف محسوب للون البني على قسمات وجه الفنانة، ادهشتني اللوحة كأنَّها نطقت بهواجسي الدفينة لها، ولما كنتُ يائساً من بقائي على قيد الحياة في تلك الحرب، حملت اللوحة إلى بيت الفنانة وتركتها عند باب دارها وانصرفت؛ ولم أعرف ماذا حدث للوحة بعدها. آخر لقاء مع صديقي إياد زيني كان قبل أربع سنوات وخلال جائحة كرونا، إذْ بادرت لجمع الأصدقاء في منزل أحدهم على أنْ أتكفَّل بجميع مستلزمات اللقاء من مأكل ومشرب، وقد حضر ذلك اللقاء العذب الفنان جبار مهدي والشاعر ميثم العتابي وأخي علي النواب والمبدع لؤي زهرة مع إياد زيني وصوته الشجي وعوده الذي لا يفارقه، لكنَّ دخول شخص طارئ إلى مجلسنا أفسد علينا عذوبة الحوار وألفة المكان، لنفترق بوجوه قانطة. واليوم إذا ما حانت إليك فرصة عزيزي القارئ لزيارة مدينة كربلاء المقدَّسة، فبوسعكَ أنْ تبقى تسير في شارع العباس حتى تصل إلى مبنى البلدية ويمكن بعدها رؤية الفنان إياد زيني وهو يمسك الفرشاة بيده منشغلاً بخط يافطة حِدادٍ على رحيله المباغت قبل يومين والذي أفجع مدينة كربلاء بأسرها؛ وربما تسمعهُ يدندن بأغنية لعبد الحليم حافظ.. طالما غنَّاها لنا في سنوات كانت ثقيلة في رعبها ومواجعها، أجل ستسمعهُ يغني بصوته الشجي.. بعد إيه، أوَّاهُ يا عندليب كربلاء.. إلى لقاء.