بركات مطر الاهوار
نعيم عبد مهلهل
يبقى البيتُ الشعريُّ الهائل الذي تلاه على أسماعِنَا الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، والقائل: (ليسَ هناكَ موسيقى أجملُ من صوتِ المَطَر)، هو لافِتةُ عِشقِنا المفضوحِ لتلكَ القطرات التي قبلَ أنْ تَغسِلَ أرصِفَةِ الأرضِ وأجفانِ الوردِ فهي تغسلُ أرواحَنا. يقولُ والدي: من تغسلُ روحَهُ قطرةُ مطرٍ واحدةٍ تهربُ من جسدِهِ كلُّ الخطايا.
لا أدري لماذا تختلفُ أمطارُ الغربةِ عن أمطارِ المكانِ الذي هناك، حيثُ يشعرُكَ المطرُ في قرى الأهوارِ وبيوتِ الطينِ والقصبِ أنَّهُ لا يبحثُ عن نخلةٍ عطشانة وسنبلةٍ تناجيه ليرويها، بل يهطلُ ليتأرجحَ بأجفانِنَا ونحنُ نفكِّرُ في البدايةِ الجميلةِ لرسالةِ الغرام التي سنكتُبُها لأميراتٍ مصنوعاتٍ من ضوءِ ذلكَ الشّرقِ الذي أتخيَّلهُ الآن محنةً لشهرِ تموز الملتهبِ وعطشَ المكانِ وموتَ غاباتِ القصبِ وفرحَ القصَّابين، فبسبب عودة الجفاف إلى الأهوار سيبيعُ المعدان جواميسَهُم للمسلخ، وسيبدأُ الرَّحيلُ الآخرُ في تغريبةٍ أخرى لم تخلِقها مدافعُ الموت والحرائق لأفواجُ ألوية الأهوار والحرسِ الجمهوري ولا حربُ داحسَ والغبراء فقط ، بل خلقتها عولمة نظر إليها (بول بريمر) بطرف أجفانه يومَ ركبَ المشحوف وجاء الى الأهوار ليقول للناس: أسقطنا طروادةَ هذه المرة ليسَ بخدعةِ الحصان الخشبي بل بالدبابات وصواريخ الكروز وبساطيل المارينز .
هذا ما أشعره وأنا أشرع بالكتابة عن أشياء أستعيدها مع وجوهٍ بعيدة، وجوهٍ عشتُ معَهَا في المكانِ ذاتِه وانتقلتْ معي إلى سَرايا الجيش وفي هجرتي استقرتْ معي بملامِحِهَا، وكانت تتواصلُ مع بالرّسائلِ والأطيافِ والمكالماتِ الهاتفيّة.
فهذه الوجوه، التي سأكونُ أمينًا في التّعايش مع أحلامها ومصائِرِها في محاولتي خلقَ متغيرٍ جديدٍ في أقدارها بعد أنْ جفَّ ضرعُ الحياةِ في الأهوار وانقطعَ مجرى النَّهرِ وتوقَّفَ هطولُ المطر، بَقتْ دمعةُ المطرِ الحزينةِ تسقطُ من أجفانِ أهلِ القرى وهمْ يسمعونَ ما ينقلهُ لهُم المترجمُ من كلامِ الحاكمِ المدني، إنَّهم يتفاءلون برسائلِ الغيوم، لكنَّها هذه المرة لم تكنْ وفيَّةً معهم، فطوال عشرةِ أعوامٍ من الأمل يعودُ الجفافُ ويذيقُهُم العطشَ، وعكسَ أنْ تهطلَ قطرةُ المطر من السّماء تهطلُ من العيون على شكل دمعة، لقد تخوفوا فلربَّما بعد سنوات لن يجدوا دمعةً واحدة في أحداقِهِم يصنعوا منها حنينهم وبكاءهم من أجل المطر.
الآن الصيفُ الألماني هنا أغزرُ مطراً من الشّتاء، عليَّ أنْ أغسلَ أرصفةَ ذاكرتي كي تصبحَ كما مرايا ضفائر أمي فأتذكر وجوه معدان قريتنا واحداً واحداً.
أتذكر ذلك اللّيل الذي كما نتبادل فيه بهجةَ قراءةِ صاحبِ سمفونية ( موسيقى المطر) وأستعيدُ المشهدَ الخرافي لموظف الخدمة ريكان يوم جاؤوا بولده شهيداً من جبهاتِ الحرب وفي صباحٍ ممطر، قبل أنْ يرفعَ العلم والغطاء عن النّعش ذهب إلى خارج البيت وسط المطر الغزير، ومدَّ كفَّيه حتَّى امتلأتا بماءِ المطر ثمَّ غسلَ بالماءِ وجهه، وصارَ يتلو بكلمات لم نكدْ نسمعَهَا جيداً ثمَّ عادَ وعانقَ ولدَهُ وانتحبَ قليلًا ثمَّ أعادَ الغطاءَ والعلم على النّعش.تلك الوقفة المدهشة للرّجل عندما ملأ كفيه بالمطر وغسل به وجهه لم تغبْ عن بالي، لكن لحراجة الموقف وعظم حزنه لم أسأله حينها ولكن بعد مرور عام على رحيل ولده أتتِ اللّحظة المناسبة لأسأله عن سبب غسله وجهه بماء المطر.قال: لقد طلبت منه أنْ يكون وسيطاً بيني وبين السّماء حتَّى لا تأخذ مني ولدي الآخر. وأظنُّ بعد مرور عام، ولدي الثّاني يذهب ويجيء من جبهات القتال سالماً، وبذلك استمع المطر إلى رجائي..
هذا الرّجل وغيره ومن أبقى بعده يديم حلماً أنْ تعود قرى الأهوار أعشاشاً للطيور المهاجرة وهي ترتدي عباءات السّنونو السّوداء أو أجنحة طير الفلامنكو الوردية أو لمعان مناقير البط الصّيني والسيبيري هو من أيقظ فيَّ الحنين ورغبة الكتابة وأنا أسمع أغنية لمطربة نصفها من أصل يوناني والنّصف الآخر عراقي واسمها عفيفة أسكندر وأغنيتها عنوانها ( يا يمه اطيني الدربيل أنظر إلى حبي واشوفه ) وترجمتها إلى العربية الفصيحة تقول: أماه هاتي لي المرقاب كي أنظر إلى حبيبي وأراه .
الرسامة المكسيكية وثعالب الأهوار
الثعالب واحدة من كائنات المكر والخديعة ، وهي تعرف العوم ولكنها لا تحب الماء ، لهذا هي نادرة في تجوالها بين القرى التي عاشت عند أديم الماء والقصب في أهوار جنوب العراق ،ومتى اختفت دجاجة شعر أهل القرية أن الثعالب كانت قريبة وقد يكون واحداً أو اثنين ، ولهذا كنا في بعض المرات نتسلى بصيدها ونصب الفخاخ لها ، وفجاة حزنت لأننا نقتل الثعالب البريئة ، فهي عندما تعيش في تلك القرى فهي من النوع الأقل مكرا ، لهذا لعنتها تطارد قاتليها . وبعيدا من هذه الرؤيا شعرت أن احد زملائي في المدرسة وكان رساما بارعاً قد انسجم تماما مع رواية لورنس الموسومة ( الثعلب ) ، وربما راح يتخيل وجه وسامة الثعلب في وجه من وجوه ابطال الرواية ، فيرسمه واضاف شيئا من سريالية خيال قراءته حين جمع وجه الرسامة المكسكية فريدا كويلو بوجه الثعلب عبر مشاعر الحزن ورسم لوحة بورتريه لوجه فنانته المكسيكية وهي في وضع بورتريه والثعلب يجلس على ركبتيها . واخبرني انه يشعر ان هذه اللوحة ستكون التعويذة التي تبعد الثعالب عن قريتنا ، فلا تموت هي ولانموت نحن من لعنتها عندما ساد معتقد غريب بيننا أن كل من يقوم بقتل ثعلبٍ يتم استدعاؤه الى خدمة الأحتياط في حروب الشمال ورباياه الباردة في زوزك وهندرين وسكران وكورك وجبال منطقة بنجوين .الآن وانا اعيش ذكريات زمن الثعالب المقتولة في ليل الأهوار ، والتي اصبحت بعيدا عند أطياف ما تجلبه الذكرى من من تصاوير وحكايات لرفقة طيبين ، بعضهم تمت دعوته لخدمة الاحتياط وخدم الجندية بسلام ، والبعض الآخر راح ضحية رصاصات القنص أو جراء لعنة قتلهم لثعالب الليل التي كان يخدعها رائحة علب اللحوم المعلبة التي نجلبها من المدينة طعاما لنا حين يعيش شهية شمها على أنها تحتوي على لحم دجاج بالرغم من أن أغلب تلك المعلبات كانت لحما بقرياً مذبوحاً على الطريقة الأسلامية .تلك الحيوانات التي تقف كثيرا وتحسب المكان بنظرات حادة ، لكن الأفخاخ أسرع من نظراتها فتموت وهي تشعر أن الدجاج انتصر عليها وخدعها من خلال لحم علب معلبات وليتها فكرت جيدا لتعرف أن المعلمين وجنود الربايا ليست لديهم أقنان دجاج بل قوالب طباشير ودفاتر الخطة المدرسية وأقلام حبر باركر أو شيفر يصححون بها دفاتر الاملاء وكتابة الرسائل الغرامية الى حبيباتهم. ذهبت تلك الايام ولم يبق منها سوى رسائل ثم انقطعت تماما عدا رسائل صديقي الرسام معلم الرسم ، وهو يتحدث عن حالة غريبة تسكنه بعدما كانت الحرب تسكنه وتشغله عن هذا عندما اخبرني أن وجه فريدا يسكن احلامه وحياته ، وأن الشظية الناعمة التي سكنت رأسه من احدى قذائف الهاون تصنع لديه صداعاً حاداً ولا يقبل الجراحون إزالتها بعملية جراحية خوفا على حياته. وفي اغلب احلامه في الليل هي عن ثعالب تزور في الليل قرى الاهوار وأهلها نائمين ومن يطاردها بدلاً عنهم الجواميس ومن يقودها الفنانة المكسكية فريدا كويلو ..