تحولات الماء
وجية عباس
(جرب ان تسمع صوت الماء وهو يهمس في أذنك: السلام عليكم!)
ويقولُ فيك الماءُ بعضَ ظنونِهِ
فتعودُ من شكٍّ بكل يقينِهِ
ظمئي بحيراتٌ، وصوتُكَ عاطشٌ
هلّا تروّيهِ بموتِ سكونِهِ
ويفيضُ جرفُكَ بالأغاني إنَّما
كانت مراثيهِ غناءَ حزينِهِ
أَحملتَ صوتَ الماءِ وهو مكابرٌ
لتجيءَ ثانيةً على عرجونِهِ؟!
كان السلامُ مبلَّلاً، والماءُ يرفلُ
بالأخيذ، مضرَّجاً بديونِهِ
بعضٌ سلامُ الماءِ يقنتُ باكياً
ورأيتُ وجهَكَ مُفرداً من دونِهِ
هبْهُ ثيابَكَ يرتديكَ وأنتَ من
حملَ الثيابَ غريبةً بجنونِهِ
*****
الآن ياصوتَ الضميرِ تحوطُهُ
وصداكَ موشومٌ على زيتونِهِ
بعضُ الظنون مجاهلٌ، وكأنَّها
مما حَملتَ عوالِمٌ بظنونِهِ
وتكادُ تجذبُها فتورقُ مرَّةً
وتعودُ ثانيةً لجرِّ غصونِهِ
أيُّ الثمارِ وهبتَ؟ أيُّ خضيبةٍ؟
تجري كأن الماءَ بين قرونِهِ
تسقي وتظمأُ، والغرابةُ أنَّها
وطنٌ، وجرحُ ضميرِهِ بجبينِهِ
وتلوذُ بالأدنى مخافَةَ ظِنَّةٍ
حذرَ التقاء يسارِهِ بيمينِهِ
*****
الماءُ كان أبي وأمي نسبةً
والماءُ يحملني بظهرِ سفينِهِ
ويكادُ يوسعُني، فأختصرُ الخطى
ضنَّ الزمرّدِ فيهِ عن مضنونِهِ
وكأنَّني أمٌّ هناك، ووالدٌ
بهما اختصرت العمرَ بين سنينِهِ
والشيبُ في أمي بياضُ غمامةٍ
هي أمطرتْ في الجدب كلَّ دفينِهِ
وعلى ثيابي من يديها عنبرٌ
والتبرُ يغسلُهُ بضوء لُجينِهِ
*****
الماءُ بعضُ خطاك يسعى فيكَ،
والمدنُ الحزينةُ بعضُ بعضِ حنينِهِ
ويكادُ يشربُكَ الوجودُ متاهةً
وكأنَّما رقصتْ على تلحينِهِ
لم تستفقْ، والخمرُ تسكبُ كأسَهُ
فترقَّ ..... لولا فرطه بِمُجونِهِ
البابُ والماءُ المراقُ حكايةٌ
والطفلُ بينهما قتيلُ قرينِهِ
يتدافعان وظلُّهُ زيتونةٌ
ببلادِهِ، وغرابةٌ في تينِهِ
ويداهُ بينهما حمامٌ أبيضٌ
حملَ البلادَ على ظلالِ متونِهِ
*****
الماءُ بعضُ دمِ الحُسينِ لأنَّهُ
ذعرَ اصفراراً من بريقِ عيونِهِ
خَجَلاً وعاراً، والبيانُ يعوزُهُ
وكأنَّهُ يسعى إلى تبيينِهِ
ويقولُ إنّا جاعلوكَ قيامةً
فاحمرَّ لونُ الماءِ في تأبينِهِ
الصبرُ أعوزهُ البكاءُ بكربلا
وأرى الحسينَ يضجُّ في تسكينِهِ
وكأنَّما الضدانِ يجتمعانِ فيه،
فطاعنٌ، ومُخضَّبٌ بطعينِهِ
عيناهُ ماسقتا العَطاشَ بشَربةٍ
وبكى الفراتُ حسينَهُ بعيونِهِ
للآن يجريكَ الفراتُ من الظما
وأراهُ يقطرُ فيك ماءَ جبينِهِ
*****
الماءُ يبتكرُ ابنَ آدم مضغةً
وحياةُ هذا الماءِ في تكوينِهِ
ترثُ الأصابعُ من يديهِ غيومَها
لو تستطيلُ على معارجِ طينِهِ
فيكادُ يرقى في السماءِ كأنَّما
جنحانِ يصطرعان فوق عرينِهِ
قَفَصٌ من الأضلاعِ يختصرُ الوجودَ
كأنَّهُ الموجودُ بين.... سجونِهِ!!
يا آدمَ الكلماتِ كُنْ ....في “الكاف”
كان البدءُ بحراً......والخطى في “نونِهِ»
خُذ من ترابِك قبضةً، وانثرْ بياضَكَ
في عمى المرآةِ بين جفونِهِ
وَتَملَّ وجهَكَ، سوف تبصرُ عالَماً
والأغنياتُ تَجِدُّ في تلوينِهِ
ستُريكَ أيَّ مَقاتِلٍ لبنيكَ
تسكنُها الرماحُ على قطيعِ وتينِهِ
وَتُريكَ أيَّ دمٍ أُريقَ على الثرى
وَتَجسُّ بعضَ خطاهُ في تدوينِهِ
أَعَلى الثرى”موسى” استظلَّ بِقيْعةٍ؟
والسيفُ يشرقُ في يدي”فرعونِهِ”؟
أم ذاك “ أحمدُ” إذ يردُّ ديونَهُ
في كربلاء وقبلُ في”صفِّينِهِ»
*****
الماءُ حدَّثني بطعم غريقِهِ
ويداهُ موثقتانَ مثلِ رهينِهِ
وأراهُ حالَ عن الرواةِ شهادةً
وروتْ عيونُ النهرِ عن تلقينِهِ
الماءُ قبرٌ ساجدٌ ملَّ انتظارِ
قيامتيه على يديْ “ذُنّونِهِ»
لكنه يعدو ويتركُ ظلَّهُ
ينمو... فتعشبُ خطوُهُ ببطونِهِ
وَيَمُدُّ للغرقى يداً، ويعيدُها
مملوءةً، والناسُ صيدُ ثمينِهِ
الماءُ يرتكبُ الخطى، وأراهُ
يمحو ما تساقطَ في أكفِّ صحونِهِ
وأراهُ يغفرُ ذنبَهُ، وثيابُهُ
النسيانُ، يلقيها بكلِّ يقينِهِ
وروى بأنَّ الموتَ يسكنُ جلدَهُ
وحياةُ كلِّ الآخرين بدينِهِ
كانت ذنوبُ الماء أنَّكَ كلُّهُ
ولو استطاع براكَ في سكّينِهِ
الماءُ جسمٌ آدميٌّ واحدٌ
لكن روحَكَ غربتانِ بطينِهِ
للماءِ ذاكرتانِ.... كيف تعامتا
كفّاهُ فاستعذبتَ ماء شجونِهِ؟!
وأنا البلادُ غريبةٌ، وأصابعي
ما يستطيلُ عليكَ في تنوينِهِ
طعمُ البلادِ مرارةٌ، وكأنَّهُ
ظمأٌ سيوردُني على غِسلينه
*****
الماءُ يبدعُ في استعادةِ وجهِهِ
ويعيدُ تشكيلَ الرؤى بسكونِهِ
بالماءِ تغتسلُ الوجوهُ لطهرِهِ
فيكادُ يصبغُها برقَّةِ لينِهِ
فَبأيِّ ماءٍ لو أراد الماءُ يغسلُ
وجهَهُ لو تابَ عن طاعونِهِ؟!
وبأيِّ ماءٍ لو توضَّأ قائماً
لصلاتِه؟ والجوعُ من ماعونِهِ
لو عاد يحصي في يديهِ مكاسِباً؟
ومواجعُ الماضين في مخزونِهِ
وبأنَّهُ قتلَ الأَجَلَّ جهالةً
ويزيدهُ الضِعفين في تخوينِهِ
وَرِضاهُ أنَّ قتيلَهم مقتولُهُ
وبأنَّهُ يجري هناك بهُوْنِهِ
يسقي الطغاةَ براحتيه خيانةً
وتراهُ يمنعُ شربَهُ لأمينِهِ
*****
الماءُ يُغرِقُ في المدائنَ وجهَهُ
يتقمَّصُ الأدوارَ بين فنونِهِ
حتى الرمادُ يسيلُ في تنّورِهِ
ليبلِّلَ الخبزَ اليتيمَ بِحَينِهِ
الناسُ خبزُ الماء يُغْرقُهم به
فتضجُّ جمرتُهُ على إتّونِهِ
في الماءِ وجهٌ للغيابِ، وغربةٌ
وشفاهُهُ عطشى على كانونِهِ
وكأنَّهُ فيها يؤثِّثُ قريةً
الطينُ سوَّرَ أهلَها بحصونِهِ
*****
الماءُ يُقرِؤني السلامَ بمَوجِهِ
ويداي تضطربان بين مَعينِهِ
وأعادني طفلاً على مظنونةٍ
والشيبُ يوقفُني على ستّينِهِ
أَنبوءةٌ؟ وكتابُهُ بيمينِهِ
أم ذاك موتُكَ جَدَّ في توهينِهِ
كان السلامُ ثيابَهُ، ووجدتني
والعريُ يسكنُني بكلِّ جنونِهِ
الآن تبتكرُ الغرابةُ ثوبَها
فتعيدَ وجهَ الماءِ في تعيينِه