حسن النواب
كنتُ أنزل بإجازةٍ لمدة سبعة أيام في كل شهر، إذا كانت جبهة الحرب هادئة، وفي جيبي 145 ديناراً؛ وهو راتبي الشهري؛ بوصفي نائب عريف سائق دبابة؛ كثيرًا ما كنتُ أذهب إلى قرية الغجر في الفوَّار قبل الوصول إلى بيتنا؛ ذات إجازة وصلتُ إلى قرية الغجر ولهفتي إلى لعب الميسر مع الصبيان الذين يقفونَ أمام بيوت المتعة؛ غلبني طفل بعمر سبع سنوات كل نقودي؛ وكان عليَّ العودة إلى منزلي؛ وشمس الغروب بدأت تجنح؛ لم يكن في جيبي فلساً واحدًا؛ وإذا بامرأة غجرية تتجه نحوي لتسألني:
- أراكَ محتارًا؟
- لا نقود عندي.
لم تنظر إلى وجهي ولم تنطق بكلمة بعد ذلك حتى لا تزيد من إذلالي؛ إنَّما دسَّت في جيبي نقودًا وانصرفتْ بخفَّة غزالة؛ أخرجتُ النقود من جيبي؛ فوجدتها تلك التي خسرتها في القمار.
في واحدة من إجازاتي؛ دخلتُ إلى ملهى الطاحونة الحمراء؛ وسعدي البياتي يغني يا نبعة الريحان؛ وأعقبهُ كاظم الساهر، غنَّى أغنيتهُ الشهيرة عبرت الشط؛ وكان يرافقهُ عزيز الرَّسام؛ هناك موقف حدث مع كاظم الساهر؛ سأكتب عنهُ في وقت آخر؛ أتحدَّث عن عام 1989؛ تلك الليلة سُرقتْ محفظتي من جيبي؛ وكان فيها أكثر من مئة دينار؛ تَنَبَّهْتُ للسرقة بينما كنتُ أجلس مع فتاة تايلندية؛ ولأني أجيد اللغة الإنجليزية؛ حصلتُ على درجات عالية فيها في دراستي؛ في بكالوريا الابتدائية حصلت على 99؛ وفي المتوسطة حصلتُ على 97؛ وفي إعدادية الزراعة حصلتُ على 98؛ فاستأنستْ لحديثي الفتاة التايلندية التي كانت تجالسني؛ أخبرتُ النادل عن سرقة محفظتي؛ هزَّ يده استخفافاَ ولم يكترث لشكواي. تركتُ الملهى لأجلس على رصيف الشارع وفي جيوبي تصفر ريح الخيبة؛ بعد مضي دقائق ربَّتت على كتفي كفٌّ رقيقةٌ؛ رفعتُ رأسي وإذا بالفتاة التايلندية تلوِّح أمام عينيَّ بمحفظتي وهي تردد العبارة التي قلتها بالإنجليزية في سياق حديثي معها:
- Don’t throw even a flower in a woman’s face.
خلال حرب الخليج وعند اندحار الجيش من الكويت عدتُ بإجازة؛ كنتُ في حينها قدْ دعوتُ لخدمة الاحتياط للمرَّة الثانية، لأني من مواليد عام 1960، استهوتني أيام الإجازة وغبتُ عليها لمدَّة ثلاثة أيَّام؛ وهذا يعني دخولي الهروب المخل بالشرف؛ بعد يوم أعلن الطاغية عن تسريح دفعةٍ من المواليد وكنتُ من ضمنهم؛ غير أني واجهتُ مشكلة عصيبة؛ فعودتي تعني كنتُ هاربًا؛ ولم أُشمل بالتسريح؛ فاخترتُ البقاء في المنزل؛ وإذا بمفرزةٍ حزبيةٍ تداهم الحي بحثاً عن الهاربين؛ لم يكن أمامي سوى الاختباء في منزل امرأة مشبوهة بسلوكها الاجتماعي، وكانت على علاقات واسعة ومتينة مع رجال متنفذين في دوائر الدولة؛ طرقتُ بابها مرتبكاً وأخبرتها عن معضلتي؛ فما كان من تلك المرأة المشبوهة إلاّ استقبالي لأمضي تلك الليلة بحمايتها؛ لم تكتف بذلك؛ إنَّما خرجت عند الصباح لتعود بعد ساعة ومعها انضباط عسكري وبيده كتاب تسفيري إلى وحدتي العسكرية؛ بوصفي كنتُ موقوفاً لضياع إجازتي؛ وصلتُ إلى وحدتي العسكرية، وخلال ساعة كان بيدي كتاب التسريح. لقد جرت الأمور على ما يرام بفضل شجاعة تلك المرأة المشبوهة؛ ولولاها لكنتُ في خبر كان؛ وعندما أردتُ رد الدين إليها على موقفها النبيل في ذلك الموقف العصيب رفضت ذلك؛ وها أنا ذا أتذكَّرُ كلام السيد المسيح عليه السلام عندما تجمَّع اليهود لرجم امرأة اتُّهمتْ بالزِنَّى، إذْ خاطبهم عيسى بن مريم قائلاً: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.
خارج المتن: سلاماً على الذين تخفقُ على روابي قلوبهم راية فلسطين.