حسن النواب
دعوني أتغزَّلُ بأرض السواد بمنتهى الحرية والجنون، وأبدأُ من لوحٍ سومري تلألأت على طينه المقدَّس أول قصيدة حب على البسيطة، تلك القصيدة التي اختزلت العشق بسطور قليلة، والتي كتبها بغصن من الآس سومري يمطر شعراً ساعة ضحى يقول فيها: جئت بهذا الليل كحلاً لعينيكِ، وبحمرة الشفق وردًا إلى خديكِ، وبنور السماء فطوراً لروحكِ، أيتها المتدفقة خصباً في أحضان الحياة. ثم أحملُ خطواتي إلى حقول الحنَّاء المزدانة أرضها بمروج الملح كما لو أنَّها قمر ساحَ بياضه على أرض الفاو؛ وأقف واجماً أمام خوذة جندي أزهر في جراحها النعناع، خوذة ثقبتها الشظايا ربما شاركني شهيدها الملجأ ذات حرب، وأصيخُ السمع لأنين ناي قصبي يعزفهُ صيَّاد يمخر عباب الأهوار بمشحوفٍ مثل حوتٍ زنجي يلتهمُ سحر الماء الأخضر، أجمعُ فتات الخبز من أزقَّة البصرة القديمة وأطعمهُ لنوارس كأنَّها نديف قطن ترفرفُ حولَ نصب السياب، وأقفُ مندهشا أمام إيشان من اللهب يسطع في تخوم بعيدة من مملكة إحفيِّظ في هور الصحين، يا لسحر «روجات» المشرَّح والقطا ورائحة تنانير العمارة ساعة غروب، وأوَّاهُ على الجنود الذين غادروا بيوتات الطين إلى الحرب ومازالت أسراب الحمام في سماء الناصرية تترقب عودتهم، نخل السماوة بلا سماوات، صدقت يا سعدي يوسف، أوَّاهُ على أسماك سدَّة الكوت المذبوحة غدراً على موائد المنطقة الخضراء، مضائف الديوانية بلا ضيوف وقهوتها باردة بعد غياب گزار حنتوش، ودرّ النجف سرقته بلاد فارس، لماذا يحدث كل ذلك يا شارع الطوسي؟ وحلاوة الدهين مذاقها العلقم بفم الزائرين، نهر الحسينة في كربلاء ما عادَ يرتوي منهُ عابر السبيل وحمام الحضرة صار يهدل بلغة فارسية؛ لماذا يا شارع العباس يحدث كل هذا وتل الزينبية بلا زينب وسبع الحسين، أوَّاهُ على فواخت الحلَّة التي تنوح على أطلال الجنائن المعلقة، ويا لحزن بلابل بساتين بُهرز على ضحايا الإرهاب، وبرتقال بعقوبة ازداد شحوباً ليس من نضجه إنَّما خوفاً على نهر خريسان من الجفاف، جسر الطبقجلي في كركوك تهشَّمتْ أضلاعه وتسجيلات دار الألحان تعزف موسيقى جنائزية على قبر جان دمو البعيد. يا للأسى، سلال مدينة بلد بلا ثمار ومنائر سامراء مازالت تنزف دمعاً على الدم الطهور الذي تدفق نوافير جلنار من جراح أطوار بهجت، وخيول تكريت المطهَّمة بالعقيق شاختْ وربضتْ على صهواتها الأحزمة الناسفة، ونواعير راوه أتعبها الظمأ وهربت من لوحات نوري الراوي بحثاً عن الماء ومآذن الفلوجة لما تزل ترشح دماً وشظايا على الكروم المحترق في بساتين حديثة، وحمَّام العليل أمسى عليلاً على منارة الحدباء التي أصبحت أثراً بعد عين، وصوت مؤذن جامع النبي يونس مشروخاً بالندم على عربة آشور المهشَّمة في غابات الحدباء، العذراء تنوح والصليب ضرَّجتهُ العبرات حين أصبحت قرقوش غابة نار تضطرم في فستان العروس وأجساد أهاليها الطيبين. وكنيسة ساره زحف على صلبانها الظلام، قلعة أربيل استعمرتها العناكب والخفافيش الغريبة بعد اغتيال الفتى الكردي سردشت عثمان، وشلالات بيخال بلا هدير، وأنتِ أيتها السليمانية موحشة جبالك؛ فلا غناء لطائر القبچ وطاقياتْ الثلج انصهرتْ قبل مجيء نوروز، الجسر العباسي في دهوك ما عادت زهور النرجس تنبت في عروقه، والدبكات الكردية بلا مزامير وطبول، أمَّا أنت أيتها المنهوبة يا بغداد، مسرَّفات الغزاة شوهت وجهك البتول، ولصوص كهرمانة أصبحوا يطالبون بحق المظلوم تحت قُبَّة البرلمان، أبو نؤاس استبدلوا نديم كأسه بالزعاف، وتحت نصب الحرية قيَّدوا بسلاسل إزميل جواد سليم، وحمامة فائق حسن نُحرتْ مرَّة أخرى بسكين الطائفية، وشارع المتنبي أحرقَ الظلاميون عيون كتبه، لأنهم يشعرون بالرعب من كل كتاب يشعُّ من سطوره النور، وازدهرت في السراديب كتب السحر والطلاسم، أيها الوطن العجيب، أكثر من مئة صحيفة وفضائية تحتج كل يوم على الظلم والظلام الذي يهيمن على الناس؛ والمنطقة الخضراء منشغلة بالنهب والسلب وتدمير كل ما هو جميل، المنطقة الطرشاء التي لا تجيد سوى الوعود الخُلَّبْ وبناء أعشاش العناكب والخفافيش في جراح البلاد التي تنزف من كل حدب وصوب.. ألمْ أقلْ لكم أني سأتغزَّلُ بأرض النحيب بحرية وبجنون، وأردِّدُ ما قالهُ السيَّاب: أنّي لأعجب كيف يمكن أنْ يخون الخائنون؟ أيتها البلاد التي أصبحتْ بلا وطن؛ وصدق مظفَّر النوَّاب حين صدح في أصقاع الغربة وبنبرةٍ مكلومةٍ أبكتْ نجوم السماء: نحنُ الاثنان بلا وطن يا وطني.