همسات ساخنة .. ومضات هادئة
إنتحار الكوتا في ديمقراطية العملية السياسية
لويس إقليمس
كتب كثيرون وتحدّث آخرون واستعرض محلّلون الأوضاع قبل وبعد فرز الأصوات الانتخابية للدورة السادسة لمجلس النواب العراقي الجديد 2025. إلاّ أن البارز الأكثر تداولاً وحديثًا في هذه الدورة انصبَّ في عدم توقع فوز أشخاص مغمورين لهم باعٌ في دورات انتخابية سابقة، مقابل خسارة غيرهم وانسحابهم من السباق الانتخابي بل «الصراع الانتخابي» بعبارة أدقّ. وكان هذا لأسباب عديدة، بعضُها يبقى في طيات وملفات المفوضية «المستقلّة» للانتخابات التي تُثار حولها أقاويل ويُنسج حول عملها حكايات وربما اتهامات في كيفية قبول أو رفض ترشيحات بعض الطامحين لعضوية السلطة التشريعية طمعًا بما أشيع حقًا أو تلفيقًا بالحصول على مكاسب ومنافع في المرتّبات والامتيازات وفي تخصيصات تحسين المعيشة ولاحقًا بالوصول إلى كوميسيونات وعقود، بعضُها لإرضاءِ ومكافأة رئيسِ الكتلة صاحب الفضل بقبول الترشيح وأخرى لسدّ نفقات الدعايات المهولة التي لم يُشهد لمثيلاتها سوى في عراق العجائب والغرائب. فترليونات الدنانير التي تم إنفاقُها، والتي جزءٌ منها تكفّلت بها المفوضية السخية دعمًا للمرشح مستحقًا كان أم لا، كانَ يمكن إنفاقُها على مشاريع وطنية خدمية وفي البنية التحتية التي تعاني من تقادم وتكسيروعطب وتوّقف وفوضى في الشوارع والساحات والمناطق السكنية والمعامل الصامتة والمشاريع المعطلة على السواء. وعلى شاكلة هؤلاء، لم يخرج مصيرُ الكوتا المخصصة للمكوّنات «الأقليات» المستباحة عن ذات الهدف وذات المنطق وذات المصير. فهي الأخرى خضعت لغربلة مزاج المفوضية إلى جانب ما شابها من استباحة وتهافت واستغلال بصفقات سياسية واضحة المعالم على أيدي كتلٍ وتحالفات كبيرة مهيمنة على الساحة السياسية لحدّ انتحارها وخروجها عن الشرعية، فأصبحت كما قال البعض «أشبه بمقاعد غير شرعية انتصر فيها الدخلاء على أبنائها الحقيقيين»، بل رهينةً بأيدي زعماء الكتل الكبيرة المتنفذة.
سوق الصفقات
هذا قدرُك يا عراق وهذا نصيبُك المكتوب يا شعبَ الرافدين! فأبناؤُك الأصلاء يُباعون ويُشترون في سوق الصفقات والمساومات وأشكال الابتزاز فيما بين اللاعبين الكبار الأقوياء، أصحاب المال والجاه والسلاح والنفوذ. ومثلُهم، ثرواتُك وأموالُ ميزانياتك شاءت أحزابُ السلطة المشكوك في وطنيتها أن تُنفقها على التفاهات والطامعين بالكعكة الدسمة التي يتكرّرُ فرزُ شهدها وعسلِها كلّ أربع سنوات لتلدَ مؤسسةً تشريعية باهتة في عملها وناقصة الغيرة في قراراتها وشاردة عن الحقّ في قفزها على الحقائق والمشاعر والغايات والحاجات والضرورات. وفي اعتقادي كما غيري، لو تساءلَ أهل الغيرة المدنية والشرف الوطني والأخلاق الرفيعة عن الفائدة من وجود وبقاء هذه المؤسسة التعبانة والمشبوهة بل المنتفعة من إقرارها أصلاً في الدستور العراقي الأعرج ما بعد السقوط الدرامي في 2003، لوقفوا على هول المحنة وعِظم الكارثة وفساد العمل بسببها لما تشكلُه من عقبة ديمقراطية في بناء الوطن والإنسان العراقي على السواء لكونها المعطّلُ الأساسي لأية بادرة للإصلاح والتغيير نحو الأفضل. بل هي المعوِّقُ الأكبر والعقبة الكأداء أمام أية تطورات إيجابية بسبب إثبات كونها حلقةً مفرغة ترتبط بمصالح ومكاسب أحزاب السلطة حصرًا، وعلى رأسها المثلث الحاكم بأمر المأبون الحاكم المدني «بول بريمر» الذي قال كلمته الفصل الواضحة بوجه ساسة الصدفة أنه كان «يتعامل مع لصوص وسرّاق وفاسدين» كما طاب لهُ وصفَهم في أحد لقاءاته مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بأنّ «قادة العراق دجّالون ومنافقون وكذّابون وسرّاق وجئنا بهم من الطرقات».
في اعتقادي، يكفي هذا الوصف الدقيق من شاهدٍ على مشهد مأساوي عندما مثَّلَ الطرف الغازي الأرعن خارجًا عن التكليف الدولي المشروع، وهو يقفُ على ضحالة ساسة الصدفة القادمين على ظهور دبابات بلاده المحتلّة وعلى غيرهم ممّن عدّوا أنفسَهم معارضين زمنَ الانتظار العسير، لكنهم أثبتواعِظمَ ضحالتهم وفشلهم في الحكم لأكثر من عقدين بائسين بحق الشعب العراقي والوطن الجريح. كما أنه وصفٌ ناطقٌ لما نحن وما سنبقى عليه إذا لم يتغيّر شكلُ منظومة الحكم في البلاد من «برلماني» إلى «رئاسي» كي يعرف الشعب الواعي مصيرَه ويأمنَ نصيبَ أجياله ويضمنَ موازين المساواة والعدالة والجدارة فيه بعيدًا عن المحاصصة التي تتقاسمُها أحزاب السلطة ومثلّثُها الفاسد منذ تشكيل أول حكومة طائفية انطلاقًا من مبدأ الجهادية والمظلومية القائم ظلمًا وتعسّفًا لغاية الساعة.
تقدّمُ الوطن وتحريرُه رهنُ انعتاقه من الطبقة الحاكمة
من المشروع أن يتساءلُ المواطن العراقي الصابر الحريص على مصير وطنه، متى الخلاص من محنة الزمن العجاف الراهن المرهون بحكم المحاصصة الفاشل والتبعية، وكيف يصير الإصلاح والتغيير؟؟؟
بدءًا أعتقد بأنّ جميع الخيارات الوطنية المتزنة والمنطقية مطروحة للنقاش والتحديث والتطوير وصولاً إلى حلولٍ وسطية شافية وسط صراع البقاء القائم الحالي بسبب عنادية وإصرار أطراف السلطة الحاكمة على أساس طائفي ومذهبي وعشائري وعرقيّ غير ناضج. ومن المؤسف أيضًا أن الكمّ الكبير من القائمين على أجهزة السلطة بأذرعها الأربعة دخيلٌ وغريبٌ في ولائه الخارجي ما يمكن احتسابُه خارجًا بل بعيدًا عن الحسّ والإجماع الوطنيّين مهما كان التبجّح بغير ذلك في الثرثرة على الفضائيات وفي المؤتمرات ووسائل التواصل الاجتماعي. فقد اكتسب الشعبُ الغارقُ في نومه لسنوات عجاف وعيًا مضاعفًا لاسيّما بعد التجربة «الديمقراطية» المشبوهة الأخيرة لاختيار السلطة التشريعية بنسختها السادسة التي شابها الكثيرمن الهزل والتزوير والتجاوزات والتخندق السلبي بشتى أشكاله، ما كشفَ عن نوايا أطراف تبجحت حينًا بإسلامها السياسي وبدعواتها الطائفية والمذهبية حينًا آخر سبيلاً سهلاً لاقتناص الأصوات بالوسائل التي خبرها وشاهدها وسمعها الجميعُ من دون خجل ولا استحياء ولا خشية أو خوف من أحد. حتى القضاء العراقي وقف مندهشًا غير قادر على ملاحقة جميع المزوّرين والراشين والمرتشين وشاري البطاقات الانتخابية في مزادات الأسواق العشائرية التي شهدتها القصور والولائم في الساحات والمضايف والجلسات الخاصة.
أمّا كيفية الدخول في مشروع الإصلاح والتغيير فليس من السهل اجترارُه بجرّة قلم أو خطابٍ وطنيّ مهما كان الساعي إليه صادقًا في وطنيته ونواياه. فالإرادة عندما تصطدم بجدران عسيرة التحطيم بهدف الصيانة وتغيير الشكل والصورة نحو الأفضل والأجمل، لن يكون من السهل التعاطي مع الكمّ الهائل القائم بسبب جبروتها وصلادتها. حينئذٍ يبقى الفكر والطَّرْقُ على الحديد حارًّا هو السبيل الأمثل للقيام بالتغيير المنشود. وهنا يأتي دور الطبقة المثقفة والكفاءات وأصحاب الخبرة والطاقات الشبابية الواعية المتجددة والأفراد في المجتمعات المكتنزة لما تبقى من حب الوطن والولاء له في ضمائرها ومشاعرها وبُنيتها الاجتماعية والتربوية الصحيحة كي تقوم بسدّ عجز غيرها من الجهات التي فشلت أو قاطعت أو انسحبت بدواعي سياسةِ لفتِ الانتباه أو جرّ الآذان التي لم تنفع ولا ولن تشفع في عقول ونفوس القائمين على السلطة والمستفيدين واللاّهثين والمنادين بعدم «ضياعها» لكونها تدرُّ عسلاً ولبنًا ماداموا على رأسها يسوسون ويجولون ويصولون على راحتهم من دون رقيب ولا حسيبٍ ولا مُنذرٍ بعاقبة السماء أو الثبور حين لا ينفع الندمُ بسبب الظلم المفروض على عامّة الشعب من فئة قليلة ضالّة جلُّ همّها اكتناز الأموال واقتناء القصور والعقارات في الداخل والخارج وتهريب الأموال وتبييضها بوسائل وطرق لم تعد خافية على الجهات الدولية ولا على أهل الداخل. لكنّهم في واقعهم «حاميها حراميها» كما يقول المثل. من هنا يكون الخلاص من الوضع المأساوي الراهن بانعتاق الوطن والشعب عن رهان الطبقة الحاكمة ليس بالوسائل القهرية والتأديبية لعدم إتاحتها شكلاً وموضوعًا وعلى أرض الواقع بل بالعقل والحكمة والإرادة الصامدة والطرق المتواصل داخليًا وخارجيًا، أي بدعمٍ قويّ من لوبيات داخلية مستترة وخارجية لها إمكانياتُها ووسائلُها الضغطية المتعددة.
كوتا الأقليات تنتحر في مزاد أحزاب السلطة
لم تشهد أية دورة انتخابية سابقة ما حصل في هذه النسخة الأخيرة من تجاوزات في مصير كوتا الأقليات التي أصبحت رهينة بأيدي الكتل الكبيرة وأحزاب السلطة المتنفذة بقوّة في المشهد السياسي بفضل ما تمتلكه هذه الأخيرة من نفوذ وسلاح وتأثير ماليّ وقدرات تعجيزية في حماية مرشحيها واستبعاد مَن لم يرق لها ترشيحه خوفًا من تنغيصه لبرامجها ومشاريعها التوسعية سياسيًا واقتصاديًا وطوبوغرافيًا.
تجاوزات على المقاعد
ولعلّ السبب الرئيسي في مثل هذه التجاوزات التي حصلت في معظم المقاعد المخصصة للمكوّنات «الأقليات»، ومن ضمنها المكوّن المسيحي يكمن بالقانون الانتخابي الذي أباح لجميع العراقيين في الداخل الحقَّ في انتخاب المرشح من دون تحديد الطرف المعنيّ بالمقعد. من هنا، فقد اختلّ التوازن في اختيار الممثلين الحقيقيين لهذا المكوّن أو ذاك بسبب تراكض أحزاب وكتل سياسية لحصد المقاعد المخصصة للكوتا لصالحها بقصد استباحتها عبر توجيه أتباعها ولاسيّما في الاقتراع الخاص لصالح المرشح الذي تبنّته ودعمته كي يُضاف المقعد لرصيدها. وهذا ما حصل في الكمّ الكبير من أصوات المقترعين من غير أتباع أصحاب الكوتا الحقيقيين لصالح مرشحين دون استثناء، ما بدا للرأي العام تحوّلَ الأحزاب والكتل الكبيرة المهيمنة «حاضنةً» خلفية لغالبيتهم. وقد عبّرَ الكثيرون عن استياء عارم حول تكالب هذه الأخيرة من أجل ضمان بضعة المقاعد المخصصة لهذا المكوّن، وكأنه فريسة أُريد بها اقتناصُها رغمًا عنها وعن أصحابها الحقيقييّن. وهذا التكالب غير المقبول وغير المسبوق في هذه الدورة يمكن وصفُه بظاهرة غير حضارية أخرجت الكوتا عن هدفها المرسوم لها بتمثيلها بأصوات أصحابها الحقيقيين حصرًا وليس بأصوات وتدخلات غيرها. كما لاقى هذا السلوك المشين استهجانًا من طبقة المثقفين والمنادين بإنصاف أصحاب الأرض الحقيقيين.
إنَّ هذه الحالة المستنكرة لا ولن تبني دولةً قوية قادرة على حماية الوطن والمواطن من براثن الطامعين والدخلاء والفاسدين المتعشعشين بين أكناف أحزاب السلطة القائمة منذ أكثر من عقدين من الزمن الخائب من الذين سعوا لجدب الأرض واستنزاف مياه النهرين الخالدين وترييف المدن وغلق أبواب الصناعة والزراعة وإفراغ خزينة البلاد بموازناتها الانفجارية المسروقة من قبل أية حكومة تتولى السلطة بفريقها الخاص المنتفع دومًا. فهي تمثل ركائزَ الفساد الحقيقي الناخر لجسم الوطن بدعمٍ وغطاء من زعامات دينية منتفعة دخيلة في معظمها على الشعب العراقي. والمرّ في دعوات البعض المتخادم رفعُه شعارَ المذهب والطائفة جهارًا نهارًا. بل والأنكى من هذا وذاك تبخترُ البعض الآخر بالولاء لأطرافٍ خارجية من غير أهل الوطن.
لقد آن الأوان كي تعود النكهة الوطنية العراقية إلى مواطنيها الأصلاء بعيدًا عن تدخل الطارئين والطامعين في انتظار ولادة حكومة وطنية تضع مصلحة البلاد في أولويات برامجها لتكسب ثقة أصحاب الأرض وبُناتها الحقيقيين، لاسيّما من المكوّن المسيحي الذي مازال مهمَّشًا ولم يحظى بتمثيلٍ حقيقيّ ولا بدورٍ وطنيّ واضح إلاّ على خجل! وستكون هذه الخطوة لو اتخذتها الحكومة المقبلة قاعدةً في حكمها التنفيذي، أفضلَ خيارٍ لمدى جدّية الدولة العراقية لو سارت على الطريق الصحيح في بناء دولة مؤسسات وليس دولة مكوّنات وكانتونات وميليشيات كما تفرضها المحاصصة المقيتة. لكن كما يبدو، فإنَّ العراقيين غير مطمئنّين في هذه الأيام الصعبة بعد بروز بوادر قديمة متجددة لتدوير ذات ذات الوجوه الحاكمة المنتفعة من مكاسب ومصالح اعتادت أحزاب السلطة الفائزة تقاسم الكعكة فيها بمنهجية المحاصصة في تشكيل الحكومة القادمة. وهذا ما يؤسفُ له حقًا إلاّ إذا شاء الراعي الأمريكي عبر مبعوث رئيسه الجدليّ «سافايا» بكسر القاعدة وفرض أجندة إصلاحية حقيقية على كامل العملية السياسية بتقليل تأثير الجارة الشرقية وتخفيف وزنها السياسيّ وثقلها المذهبي على الزعامات التقليدية التي تجاهر بولائها التام لها ولزعامتها المذهبية. وكما يبدو فالمسألة تتطلبُ إعادة هندسة الوضع السياسي العراقي برمّته. والأفضل أن تحصل هذه التدابير بغطاءٍ دوليّ وإجماعٍ وطنيّ وإقليمي معًا. حينئذٍ يكون العراق قد بدأ سكّة التحرّر الصحيح من أغلال السجن القابع فيه منذ أكثر من عقدين عقيمين من الزمن الغادر.