الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عندما يكونُ المستشار صادقاً وأميناً

بواسطة azzaman

عندما يكونُ المستشار صادقاً وأميناً

تصان الأمانات- تبني الدول- تتقدمَ الأممُ

محمد خضير الانباري

 

     قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى في كتابهِ الكريمِ (وشاورهمْ في الأمرِ ) . (سورةُ آلِ عمران: 159 ) . تؤكدَ هذهِ الآيةِ الكريمة، أنَ المشورةَ لا قيمةً لها إذا لمْ تبنَ على الصدق، فالمستشار، الذي يجاملُ أوْ يخفي الحقيقةَ لمنْ طلبَ الاستشارةَ منه، يخالفَ جوهرُ الشورى التي تقومُ على النصيحةِ الخالصة، والرأيُ الأمين، والموقفُ الصريح.

     منْ هذهِ الآيةِ الكريمةِ ننطلق في مقالتنا، التي تتعلقُ بحنكةٍ وذكاءٍ وصدقِ وحكمةِ المستشارِ أوْ مقدمِ الرأيِ للمسؤولِ التنفيذيِ أوْ التشريعي. في هذا الزمنِ الصعب، الذي تتداخلُ فيهِ المصالحُ وتتشابكُ فيهِ الأصوات، يصبح وجودُ المستشارِ حاجةً أساسيةً لا مجردَ رفاهية. فالمستشارُ الحقيقي، ليسَ منْ يقولُ ما نحبُ سماعه، بلْ ما نحتاجُ أنْ نسمعه، حتى لوْ كانَ مخالفا لرغباتنا أوْ صادما لتوقعاتنا. إنَ صدقَ المستشارِ لا ينبعُ منْ رغبةِ المواجهةِ أوْ الاختلاف، بلْ منْ حرصهِ العميقِ على الوصولِ إلى القرارِ الصائب. أنَ المستشارَ الصادقْ الأمين، لا يتجاوزُ الواقع، ولا يخففُ منْ حدةِ الحقائق، ولا يسمحُ للمجاملة، أنْ تتسللَ إلى رأيه. فهوَ يدركُ أنَ المجاملةَ قدْ ترضي لحظة، لكنها تضللُ زمنا، بينما الحقيقةُ قدْ توجعُ لحظةً لكنها تنقذُ عمرا. ومنْ هنا تأتي قيمةَ نصيحته؛ فهيَ مبنيةٌ على المعرفة، مدعومةً بالتجربة، وموجهةٌ بالإخلاص. أنَ كلمةَ الحقِ قدْ تكونُ ثقيلة، فإنَ هذا النوعَ منْ المستشارينَ نادر، يصبح سندا موثوقا، وبوصلةٌ تعيدُ التوازن، ومرآةٌ تظهرُ الأشياءُ كما هي، والاستماعُ إليهِ شجاعة، والعملُ برأيهِ حكمة.

      وبهذا الشأن؛ فأروعُ ما قرأتهُ في أحدِ المواقعِ الثقافية، منْ الحوارِ الذي جرى بينَ السفيرِ العراقيِ الأسبقِ في لندن (عبدُ الرزاقْ البزازْ ) ، والرئيسُ العراقيُ الأسبقُ (عبدُ السلامْ عارف) (رحمهما اللهُ ) . فقدٌ استدعاهُ الرئيسُ في السادسِ منْ كانونِ الأولِ 1964، ليستطلع رأيهُ في الإصلاحِ الزراعيِ والتأميم، اللذينِ قامَ بهما الرئيسُ جمالْ عبدِ الناصرْ (رحمهُ الله) في مصر، تمهيدا لدراسةِ إمكانيةِ تطبيقهما في العراق، علما أنَ السفيرَ (عبدُ الرحمنْ البزاز) منْ الشخصياتِ القانونيةِ والسياسيةِ المعروفةِ في العراق، إذ؛ تولى عمادةَ كليةِ القانونِ في جامعةِ بغداد، ومنصبَ وزيرِ خارجيةِ ورئيسِ وزراءَ العراق.

    بدأَ حديثُ البزازْ إلى رئيسهِ العارف، بالقول: وبعدٌ أنْ أثنى على شخصيةِ الرئيسِ جمالْ عبدِ الناصر، مشيدا بالمحبةِ الكبيرةِ التي يتمتعُ بها لدى الشعبينِ المصريِ والعربي، وبمكانتهِ الرفيعةِ في وجدانِ جماهيرِ الأمةِ العربيةِ والإسلامية، ولكنه، لمْ يترددْ في أنْ يضعَ النقاطَ على الحروف- بكلِ صراحة- ووضوح- دونُ تردد- أوْ خوفٍ أوْ مجاملةٍ منْ الرئيسِ عارف. فقدٌ بينٌ له، أنَ جانبا مهما منْ الإخفاقاتِ التي تعرضتْ لها مصرُ والأمةُ العربية، كانَ نتيجةً مباشرةً ، لسياساتِ عبدِ الناصرْ غيرَ المدروسةِ والمتسرعة؛ إذ؛ فقدتْ مصرُ أراضيها في سيناء، وخسرتْ الحربُ أمامَ الكيانِ الصهيوني، لولا الضغطُ الأميركيُ والسوفيتي، لما انسحبتْ القواتُ الصهيونيةُ منها، إضافةٌ إلى انزلاقِ مصرَ في مستنقعِ حربِ اليمن، التي خرجتْ منها منهكةً اقتصاديا، وعسكريًا. وفشل عبد الناصر في الحفاظ على الوحدة المصرية–السورية بعد توحيدهما في العام 1958. بسببَ ممارساتِ القيادةِ المصريةِ وممثليها في دمشق، وما نتجَ عنها منْ توتراتٍ قادتْ إلى الانفصالِ بانقلابٍ عسكريٍ وإلى جانبِ ذلك، أقامَ نظاما بوليسيا مخابراتيا يحكمُ بالنارِ والحديدِ الشعبِ المصري، ويستخدمَ أجهزةَ المباحثِ والمخابراتِ والاتحادِ الاشتراكيِ لترهيبِ المعارضين، مصفيا منْ خلالهِ العديدَ منْ خصومه، وحتى بعضُ رفاقهِ في الجيش، مما أكسبهُ أعداءٌ في الداخلِ والخارج. لقدْ كانتْ تلكَ صراحةٌ نادرةٌ وجريئةٌ منْ سفيرٍ يخاطبُ رئيسَ دولته- الذي يعتبرُ الرئيسُ جمالْ عبدِ الناصرْ قدوتهِ الوليَ في الحكم- لكنَ البزاز، أثارَ الحقيقة، وقدمها لرئيسه- دونُ مجاملة- أوْ مساومة، واضعا الواجبَ فوقَ كلِ اعتبار. وفي النهاية، يبقى صدقُ المستشارِ أوْ مقدمِ الرأي، حجرُ الزاويةِ في كلِ قرارٍ سليم، فالاستشارةُ التي تبنى على المجاملةِ أوْ الخوفِ لا تثمرُ إلا ضعفا واضطرابا، أما الرأيِ الصادقِ فهوَ البوصلةُ التي تهدي القائدَ إلى الطريقِ الصحيحِ مهما كانَ شائكا. إنَ المستشارَ الأمينَ لا يبحثُ عنْ رضا أحد، بلْ عنْ مصلحةِ الوطنِ والحقيقة، ولا يخشى أنْ يصدحَ بما يرى، حتى لوْ خالفَ رغباتٍ الأقربين. فبصدقَ النصيحة تصانُ الأمانات، وبشجاعةِ الكلمةِ تبنيَ الدول، وتتقدمَ الأمم. وهكذا يظلُ المستشارُ الصادقْ قيمةً لا تقاس، وركنا لا غنى عنهُ لكلِ قائدٍ يريدُ أنْ يصنعَ مستقبلاً يقومُ على الحكمةِ والحق.


مشاهدات 52
الكاتب محمد خضير الانباري
أضيف 2025/11/25 - 4:04 PM
آخر تحديث 2025/11/26 - 1:50 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 71 الشهر 18765 الكلي 12680268
الوقت الآن
الأربعاء 2025/11/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير