المالكي يطرق باب أربیل .. فمن یستقبل ؟
عطا شمیراني
في السياسة كما في الفلسفة، ليست الخطوات هي ما يهم فقط، بل الرموز التي تحملها هذه الخطوات. زيارة نوري المالكي إلى أربيل، ليست مجرد رحلة دبلوماسية للبحث في تشكيل الحكومة المقبلة، بل اختبار عميق لذاكرة التاريخ السياسي في العراق، واختبار أشد لوعي الكرد ووزنهم في معادلة المنطقة. فالرجل الذي أدار سياسة قطع الرواتب عن موظفي الإقليم، والذي صُنّف شعبياً في الشارع الكردي كـ“أكبر خصم للعقل الكردي”، يعود اليوم بوجه جديد يريد أن يتحدث بلغة الشراكة. لكن السؤال الفلسفي الأعمق هو: هل يمكن بناء المستقبل بأدوات الماضي؟ وهل المصلحة السياسية قادرة على غسل ذاكرة الشعوب؟
الكرد ليسوا تفصيلاً جغرافيًا في العراق، بل هم الكفة التي تمنع الميزان من الانهيار. من دونهم يصبح العراق مجرد وطن بنصف ساق، أرض تتكلم بلا صوت، وجغرافيا تتحرك بلا إرادة. لهذا لم تستطع أي حكومة عراقية منذ 2003 أن تتنفس سياسيًا من دون المرور عبر بوابة أربيل. ليس لأن أربيل مجرد مدينة، بل لأنها تحولت إلى “معنى”، إلى فكرة تقول: لا يمكن لأي مشروع سياسي أن يكتمل من دون الاعتراف بثقل الكرد، لا بوصفهم مكوّنًا، بل بوصفهم ركيزة توازن سياسي وجغرافي وأخلاقي.
فلسفة سياسية
زيارة المالكي تُعيد طرح معضلة كبيرة: هل تغيّرت الظروف أم تغيّرت الوجوه فقط؟
وهل يذهب السياسي إلى أربيل من أجل الشراكة أم من أجل الاستعمال المرحلي؟
الفلسفة السياسية تقول إن أخطر أنواع السياسة هي تلك التي تُدار بمنطق “الحاجة”، لا بمنطق “الاقتناع”.
فالعلاقة المعتمدة على الحاجات المؤقتة لا تبني دولة، ولا تصنع ثقة، بل تنتج مسرحًا متكررًا من الانتهازية السياسية. وحين يشعر الكرد أن بغداد لا تأتي إلا عندما تحتاج، تتعزّز لديهم قناعة راسخة بأن الشراكة في العراق ما زالت “اضطرارية”، لا “اختيارية”.
ورغم ذلك، فإن ذكاء التجربة الكردية أنها لم تسقط في فخ الانفعال. الكرد لم يدخلوا بغداد من باب الثأر، بل من باب التوازن. هم يعرفون أن بغداد إن لم تُعترف بالشراكة، ستتحول إلى مدينة تدور حول نفسها، وأن العراق إذا أدار ظهره للإقليم، سيدير ظهره لمستقبله بأكمله. ولهذا يمكن القول إن الإقليم هو المرآة الحقيقية لوجه العراق؛ فإذا تعاملت بغداد بعدالة، انعكس وجهها هادئًا، وإذا تعاملت بتهميش، ظهر وجهها قبيحًا أمام الجميع.
ولعل أهم ما يجب أن يُفهم اليوم أن الشارع الكردي ليس مجرد رقم انتخابي يُستخدم، بل ذاكرة حية. ذاكرة تتذكر من وقف معها ومن قطع عنها الرواتب، من دعم حلم الدولة ومن حاصره، من رأى في الكرد مشروعًا وطنيًا ومن تعامل معهم كـ“ملف أمني”. هذه الذاكرة هي ما سيقرر شكل العلاقة الجديدة، وهي ما سيحكم مستقبل العراق السياسي.
والمالكي، مثل أي سياسي يعود إلى الإقليم بعد سنوات من القطيعة، يجب أن يفهم أن التفاوض في أربيل ليس تفاوضًا على مقاعد، بل تفاوض على ثقة، وثقة الشعوب لا تُشترى.
في النهاية، إن فلسفة القوة لا تكمن في السيطرة، بل في القدرة على بناء شراكة مع من تختلف معهم. والكرد أثبتوا أن وزنهم لا يقاس بعدد النواب، بل بقدرتهم على تحريك المسار السياسي بأكمله. وإذا كان المالكي يريد أن يعود إلى واجهة الحكم، فعليه أن يفهم أن أربيل ليست مفاتيح لكرسي، بل بوابة لوطن كامل، وطن يبحث عن صيغة تعايش، لا عن لحظة هدنة مؤقتة.