طريق الدولة الحضارية الحديثة
العراق بين حكمة المرجعية وتحدّيات الدولة الريعية
محمد عبد الكريم النجم
منذ عام 2003، شكّل العراق نموذجاً فريداً في صراعه بين إرث الدولة الريعية من جهة، والسعي لبناء دولة مدنية حديثة من جهة أخرى. وفي هذا المسار المضطرب، برزت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، ممثلةً بسماحة السيد علي السيستاني، كعامل توازن واستقرار أساسي، ليس للعراق وحده، بل للمنطقة بأكملها.
المرجعية وضمان الاستقرار الوطني والإقليمي
لقد أدّت حكمة السيد السيستاني دوراً محورياً في حماية النسيج الاجتماعي العراقي من الانقسام الطائفي، خصوصاً خلال الأزمات الكبرى، من الاحتلال إلى الإرهاب، ومن الانقسامات السياسية إلى التوترات الإقليمية.
كانت مواقفه واضحة: دعم الدولة ومؤسساتها الشرعية، وحصر السلاح بيدها، والتمسك بالهوية الوطنية الجامعة، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد.
كما ساهمت توجيهاته في تعزيز استقلال القرار الوطني، ورفض تحويل العراق إلى ساحة صراع بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية. لقد مثّلت المرجعية صمّام الأمان الذي حال دون تفكك الدولة العراقية، ومنح المجتمع روحاً أخلاقية ووطنية تستند إلى قيم العدل والإنسانية.
الاقتصاد العراقي… الدولة الريعية ودوامة التبعية
رغم الإمكانات الهائلة التي يمتلكها العراق من ثروات طبيعية وبشرية، ما زال اقتصاده يعتمد على النفط بنسبة تفوق 90 بالمئة من إيراداته. هذه الريعية حوّلت الاقتصاد إلى اقتصاد استهلاكي هشّ، يعتمد على الإنفاق الحكومي، ويضعف أمام أي هزّة في أسعار النفط.
إن بقاء العراق دولة ريعية يعني استمرار التبعية الاقتصادية، واتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع، وتراجع دور القطاع الخاص والإنتاج المحلي. لذلك لا يمكن بناء عراق مستقر دون تنويع الاقتصاد، وإحياء الزراعة والصناعة، وربط التعليم والتكنولوجيا بالاحتياجات الوطنية.
الزراعة والصناعة… ضحية السياسات الخاطئة
تراجعت الزراعة العراقية من مصدر للأمن الغذائي إلى قطاع هامشي يعتمد على الاستيراد. أما الصناعة، التي كانت يوماً ركناً في بنية الدولة الحديثة، فقد تآكلت بفعل الإهمال وسوء الإدارة.
إصلاح هذين القطاعين يتطلب رؤية وطنية تتجاوز الحلول الترقيعية، تبدأ من دعم الفلاحين والصناعيين، وتوفير القروض الإنتاجية، وإنشاء مناطق صناعية وزراعية متخصصة، وتبنّي سياسة مائية وغذائية متكاملة.
مشكلة المياه مع تركيا وإيران… الأمن المائي أولاً
أزمة المياه لم تعد قضية فنية أو موسمية، بل تهديداً وجودياً. سياسات السدود التركية والإيرانية قلّصت تدفقات نهري دجلة والفرات بشكل خطير، ما أثّر على الزراعة والبيئة والحياة الاجتماعية.
الحل يكمن في دبلوماسية مائية نشطة تعتمد على الحوار الجاد، والاتفاقيات الدولية الملزمة، إضافة إلى الاستثمار في التقنيات الحديثة للري، وتحلية المياه، وإعادة تدويرها. إن الأمن المائي لا يقل أهمية عن الأمن الوطني.
رؤية الدولة الحضارية الحديثة: نحو عراق منتج ومستقر
تقدّم فكرة الدولة الحضارية الحديثة إطاراً فكرياً وعملياً للخروج من أزمات العراق البنيوية. فهي تقوم على:
•دولة المواطنة والقانون والمؤسسات لا الولاءات الفرعية.
•اقتصاد منتج متنوع لا ريعي.
•تعليم حديث مرتبط بالتنمية والبحث العلمي.
•سياسات خارجية متوازنة تحفظ السيادة وتبني الشراكات وفق المصالح المشتركة.
إنّ بناء الدولة الحضارية الحديثة يعني استعادة الإنسان العراقي لدوره في التنمية، وتحويل العراق من ساحة تنافس إلى محور استقرار، ومن اقتصاد نفطي هش إلى دولة إنتاج ومعرفة.
خاتمة
العراق اليوم أمام لحظة تاريخية فاصلة. فإما أن يواصل الدوران في حلقة الريع والفساد والتبعية، أو أن ينطلق نحو مشروع وطني جامع يستند إلى حكمة المرجعية وإرادة الإصلاح، ورؤية الدولة الحضارية الحديثة التي تؤمن بالإنسان كغاية ووسيلة للتنمية.