الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءات نقدية.. صندوق عتاب للشاعرة كولالة نوري


قراءات نقدية.. صندوق عتاب للشاعرة كولالة نوري

نشوان عزيز عمانوئيل

 

في زمنٍ أصبحت فيه بعض النصوص سلعةً لغوية تُقاس بإيقاعها الفني أو قابليتها للتداول، تأتي مجموعة «صندوق عتاب» للشاعرة كولالة نوري لتعيد ترتيب علاقتنا بالشعر، لا كفنٍّ جماليّ فحسب، بل كأداةٍ لاستنطاق الألم، وتأريخ الخسارات الشخصية والجماعية بمخيلة حادة كحدّ السكين.

إن قراءة هذه المجموعة لا يمكن أن تتمّ ضمن النماذج التقليدية لفهم النصّ الشعري، فهي لا تقدم «قصائد» بقدر ما تفتح «فضاءً شعوريًا مركّبًا»، تُستدعى فيه اللغة لتأدية وظائف وجودية: التعزية، والمقاومة، والنجاة فهي

تكشف في مجموعتها الشعرية عن ممرّات سريّة في الذاكرة، كانت مختومة بالشمع الأحمر.

كأنما هي طقوس انتقاميّة ناعمة ضدّ الصمت.. ضدّ الوطن حين يصبح فندقًا بلا مفاتيح.

 هذه قراءة لا تسعى إلى تفكيك النصوص بقدر ما تسعى للتماهي مع توترها الداخلي، تحاول الإصغاء إلى الهوامش أكثر من المتن، إلى الصمت أكثر من الجُمل، إلى ما تتركه القصائد فينا، لا ما تقوله لنا.

هي تجربة شعرية كاملة، جادة ، لا تعتمد على وحدة الشكل، بل على وحدة الوجع، وحدة الصوت، وحدة السؤال:

ماذا نفعل بكلّ هذا العتاب الذي لم يُقال؟

القصائد هنا تُمثّل امتدادًا لجغرافيا القصيدة النثرية، لا من حيث الشكل فحسب، بل من حيث الموقف الشعري الذي تتخذه الكاتبة من اللغة، والذات، والعالم.

هذه المجموعة لا تقدّم نفسها كمجرد نصوص شعرية متناثرة، بل كمشروع لغويّ ووجدانيّ متكامل، تحكمه رؤية داخلية صارمة تنزع إلى تفجير البُنى التقليدية للتعبير، وإحلال نَفَس شعري تعبيري شخصي محل الخطابات الكبرى الجاهزة.

اسئلة انطباعية

في قراءة هذه المجموعة، لا بدّ من تجاوز الأسئلة الانطباعية حول الجماليات المباشرة، والذهاب إلى ما وراء النص: إلى مكامن الصوت، وإيقاع الصمت، وتحولات المعنى عبر الصورة واللاوعي الثقافي.

نحن هنا أمام نصّ ينهل من تجربة الأنثى المتشظية، لا بوصفها «هوية»، بل ككيان لغويّ يعيش التمزق، الحب، الفقد، النفي، والحنين، بكل تجلياتهم النفسية والرمزية.

إن ما يجعل «صندوق عتاب» نصًّا قابلًا للتورط النقدي العميق هو تعدد طبقاته الدلالية، وتوتره الدائم بين البوح الشخصي والتمثيل الجمعي، حيث تتحوّل القصيدة إلى أداة وجودية للترميم، لا تكتب العالم بل تشكّك فيه.

كل قصيدة هي رسالة لم تُرسَل… لكنها وُضِعت بعناية في جيب المعطف الأخير لمن رحلوا.

صندوق عتاب» ليس ديوانًا تقرؤه دفعة واحدة؛ بل هو صندوقٌ حقيقيّ، عليك أن تفتحه قصيدةً قصيدة، كي لا تنفجر في وجهك الذكريات.

إنه عمل شعريّ ناضج وموجع، صادق في خيبته، عذب في شظاياه، وضروريّ لمن يعرف أن الشعر ليس زينةً لغويّة، بل طقس نجاة.

مقاعد فارغة

في هذه الصفحات، لن تجد قصائد؛ ستجد مقاعدَ فارغة في جنازةٍ لم يُعلَن عنها. ستتعثّر بجواربَ مثقوبة من الحنين، وبأزرارٍ تتكلّم لغة الطباشير. الكلمات ليست كلمات، بل فزّاعات ترتدي بدلات المساء وتنام في الأدراج بجانب مفاتيح ضائعة.

صندوق عتاب» يمثّل إضافة لافتة في مسيرة كولالة نوري الشعرية وأدواتها التعبيرية، وقدرتها على بناء عوالم شعرية مفعمة بالتوترات الهادئة والاعترافات المؤجلة.

هذه المجموعة ليست حشدًا من القصائد، بل نسيجًا شعريًا مكتملًا، نُسِج من خيوط العزلة، والبوح، والتفكّر الطويل في هشاشة الإنسان حين يُحب، حين يُخذل، حين ينتظر، وحين لا يجد ما يقوله إلّا على الورق.

إن ما يُميّز هذهِ التجربة ليس فقط لغتها الخاصة، ولا خفوتها الماكر، ولا الصور الشعرية التي تتكاثر داخل القارئ دون ضجيج… بل وعيها الشعري العميق بما لا يُقال.

إنها شاعرة تُتقن الصمت كما تُتقن الكتابة، وتعرف أن القصيدة ليست سطرًا يُكتب، بل صدىٌ يبقى بعد أن يُغلق الكتاب.

هذه المجموعة تُشجّع القارئ — لا على الإعجاب، بل على التأمل.

لا على التصفيق، بل على إعادة اكتشاف علاقته بما أخفاه عن نفسه.

هي تجربة تستحق أن تُقرأ ببطء،

أن تُعاد،

وإذا كانت معظم النصوص الشعرية المعاصرة تسعى إلى التأثير من الخارج، فإن «صندوق عتاب» يتسلّل من الداخل، ويعيد ترتيب الشعور دون أن يُعلن عن نفسه.

إن هذه المجموعة، في كل ما فيها من شجن وتواضع وجمال،

ليست فقط محطة في مسار شعري،

خيط رفيع

بل وعدٌ بأفق أبعد...تمضي فيه الشاعرة على خيطٍ رفيع من النور الخافت، تمسك بطرف الحرف كأنها تمسك بطرف جرح، وتكتب لا لتُدهش، بل لتكشف. وهنا يكمن جوهر الفرادة في هذه المجموعة: إنها لا تطلب التصفيق، بل تطلب الإصغاء.

وهي تكتب بنبرة من يرى العالم عبر زجاجٍ غير مصقول، حيث تبدو الأشياء مألوفة وغامضة في آنٍ معًا، ويغدو العتاب فعل محبة متأخرة، لا إدانة، والقصيدة بيتًا مؤقتًا لمن فقدوا اللغة، والطمأنينة، واليقين.

إن هذه النصوص، وهي تمضي بتؤدة بين الظلال، نجحت في أن تكون خافتة في صوتها، عميقة في وقعها. أن يكون الانكسار مادة جمالية لا للشفقة، بل للتأمل.

«صندوق عتاب» ليس عملًا عابرًا في مدونة القصيدة المعاصرة، بل نقطة مضيئة في مسار الكتابة الوجدانية الصادقة، تلك التي لا تبحث عن شكلٍ جديد بقدر ما تبحث عن روح لا تزال تقاوم الاندثار بالكلمة.

 إن «صندوق عتاب» عمل لا يسعى إلى تقديم إجابات، بل إلى إعادة تشكيل الأسئلة التي نحملها في دواخلنا. وهو بهذا، لا يكتفي بأن يكون مجموعة شعرية، بل يتحول إلى مساحة تأمل، وإضافة نوعية في مسار الشاعرة الإبداعي.


مشاهدات 36
الكاتب نشوان عزيز عمانوئيل
أضيف 2025/08/16 - 11:20 PM
آخر تحديث 2025/08/17 - 1:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 69 الشهر 11682 الكلي 11406768
الوقت الآن
الأحد 2025/8/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير