بسام فرج وحكاية حقيبة سوداء أودعها قلبه.. رثاء في أوان ذكرى الميلاد
رياض شابا
رحل بسام فرج مغترباً بعيداً عن بلاده بصمت، لا يشبه الأصداء التي تتركها رسوماته الكاريكاتيرية الممهورة باسمه الذي شغل ساحة الصحافة العراقية لعقود، بدأت منذ منتصف الستينات، وهو الوقت الذي دشنتُ فيه بداياتي الصحفية، طالباً جامعياً يطرق أبواب (مهنة المتاعب).
فارق بسام الحياة بعد أنْ اختار الموتُ، (الكورنا) اللعينةَ، سلاحاً شَهره ليصرع به عنفوانه، وضحكاته، وما تبقى عنده من أحلام متأخرة وصور متزاحمة من الحاضر والماضي، وكأني بالقَدَر يُمعن في زيادة عذاباته، ويختار له هذه النهاية المأساوية غير المتوقعة!
ما زلتُ أتذكّر حقيبته الجلدية السوداء الكبيرة التي لازمته لسنوات. لا تفارقه ما إنْ يغادر مسكنه في الصباح وحتى عودته عند منتصف الليل. يمسك بمقبضها البلاستيكي السميك في الطريق بيد، ويدفع بشعره الطويل إلى الخلف باليد الأخرى. يحتضن (حبيبته) أحياناً، ويضعها قريباً من القلب دائماً. في داخل تلك الحقيبة (أم الحوضين) والجيوب العديدة (يٌخبِّئ) بسام أدواته وتخطيطاته وأفكاره التي يترجمها حباً لوطن أخلص له بكل جوارحه، لكنه لم يلقَ منه غير الخذلان والمرارة والخيبة.
ملاحقات ومطاردات ومضايقات يروي بعضاً منها همساً، بقالب هزلي ساخر، وبصوت مسموع أحياناً عندما نتبادل أحاديثَ مقتضبة (ضرورية) بالكلدانية، تجعلني أقول له مشاكساً: (كلدانيتك مكسَّرة) مثل خشمك!
تفاصيل حبيبة
وطيلة سنوات معرفتي به، لم يسأل أيٌّ منَّا الآخر: من أين أنت؟. لم نكن جميعاً نفعل ذلك إلّا عند الضرورة. ندع الأيام تكشف بتلقائيتها تفاصيل حبيبة تصبُّ كلها في مكان اسمه (عراق)، تركناه مُكرَهين في أزمان وظروف متباينة، وبقي الكثيرون يعيشون داخله غرباء.
وقد وجد بسام نفسَه يلجأ في النهاية الى ما هو أمَرُّ وأقسى مما صادفه في وطنه، عندما اختار الهجرة أو (النفي الاختياري)، لكنه لم يكن يرضى بالتأكيد أنْ يموت في أرض غريبة هي (هنغاريا) التي قصدها منذ العام 1976، رغم أنه وجد فيها سعادة واضحة المعالم، الاّ أنها ظلت منقوصة بالنسبة لشخص عاش العراقُ في شرايينه منذ الصغر.
لم تكن بنا حاجة، بسام وآخرون وأنا، الى تحديد موعد مسبق، كي نلتقي، في مساءات تُمَهِّدُ نفسها أمام (كَروبات) ألِفَتْ الجلوس في زاوية من ليالي بغداد المُنكَّهة بعطر دجلة وشارع الأحلام (أبي نؤاس). أماكن تترقب قدومنا في ختام نهارات العمل، بعد محطة انتظار اسمها (كَهوة المعقدين) .. مقهى ابراهيم قبالة مطعم (نزار). وهناك، قبل أنْ (يدق الجرس)، كنا ندخن ونثرثر، ونرتشف شاياً أسود أو (استكان حامض) هو الأطيب في بغداد.. ويبقى.
□ عن موقع برقية
□ في ذكرى ميلاده (السادس من أب 1943).. سطور عن ماضٍ لن يعود كتبتها وفاء لصديقي العراقي الجميل بسام فرج الذي توفي في العشرين من آذار 2021.