المُهجّر العراقي .. غياب بصفة رسمية
سالي خليل
تشكّل الهجرة اليوم إحدى أبرز الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالواقع العراقي، خصوصًا في صفوف الشباب، فمنذ عقود، لم تكن مغادرة الوطن ترفًا، بل خيارًا مرًّا فرضته تعقيدات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبات يُمثّل نقطة تحوّل في حياة آلاف العراقيين الذين وجدوا أنفسهم مبعَدين عن وطنٍ لم يعُد يحتملهم، أو لم يمنحهم ما يستحقونه. وفي خضمّ هذا التشتت الجغرافي، تُطرح الأسئلة: هل يمثل الشباب العراقي في المهجر امتدادًا رمزيًا وفعليًا للدولة العراقية؟ وهل يتم التعامل معهم كقوة ناعمة فاعلة في تغيير الصورة الدولية للبلد؟ أم أنهم مجرد نتائج عرضية لأزمات الداخل، يُعاملون كمنفيّين رغم أن بعضهم يحمل أنجح السِيَر؟
في هذا المقال، نحاول تشخيص الأسباب، واستعراض التحديات، ثم تحليل الموقف الرسمي من هذه الفئة المهمة، واختتامًا برؤية إصلاحية قابلة للتنفيذ.
أولًا: دوافع الهجرة، من يدفع الشباب للمغادرة؟
لم تكن موجات الهجرة التي شهدها العراق وليدة اللحظة، بل جاءت كمحصلة تراكمية لتدهور في أكثر من قطاع، فأن أبرز الأسباب التي تدفع الشباب للهجرة يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. الانهيار الاقتصادي وتضاؤل فرص العمل، حيث يواجه الخريجون سنوات من البطالة قبل إيجاد فرصة، إن وجدت.
2. الفساد الإداري والمحسوبية، ما يُجهض طموح الكفاءات ويجعل النجاح مرهونًا بالعلاقات لا بالجدارة.
3. ضعف البيئة التعليمية والبحثية، مما يدفع النخبة العلمية للبحث عن جامعات أكثر تطورًا واحتضانًا.
4. الأزمات الأمنية المتكررة، التي تجعل الحياة اليومية محاطة بعدم يقين دائم.
5. غياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، ما يشعر شريحة واسعة بالتهميش وعدم الانتماء.
6. العوامل النفسية والوجدانية، كالشعور بالخذلان، والإحساس بأن لا شيء سيتغير، وفقدان الأمل في الإصلاح الداخلي.
ثانيًا: تحديات المغترب العراقي في الخارج:
ما إن يصل الشاب العراقي إلى البلد الجديد، حتى يبدأ فصل آخر من التحديات، لا يقل صعوبة عن سابقه، لكن بصيغ مختلفة:
1. صراع الهوية والانتماء، حيث يُفرض عليه التعايش مع ثقافة مختلفة دون أن ينسلخ عن جذوره.
2. العوائق القانونية والإدارية، خصوصًا في دول اللجوء، حيث المعاملة غير المتكافئة.
3. صورة العراق السلبية في الإعلام الغربي، مما يُجبره على تبرير انتمائه أو تفنيد الصور النمطية.
4. الاندماج الاجتماعي الصعب، لا سيما إذا كانت المجتمعات المستقبِلة مغلقة أو غير مرحّبة بالمهاجرين.
5. الفراغ العاطفي والأسري، إذ ينفصل عن محيطه الداعم دون وجود بديل كافٍ. رغم ذلك، نجد نماذج مشرقة للغاية: طلبة متفوقون، باحثون لامعون، أطباء ومهندسون وعاملون في مجالات مختلفة، يمثلون العراق بصورة مشرّفة دون دعم رسمي مباشر.
ثالثًا: موقف الدولة، أين المؤسسات من هذا الامتداد الحيوي؟
تكاد الدولة العراقية – بمؤسساتها المختلفة – تغيب غيابًا ملحوظًا عن ملف المغتربين، لا سيما الشباب منهم.
فرغم وجود بعثات دبلوماسية وسفارات وقنصليات، إلا أن وظائفها غالبًا ما تقتصر على الجانب البروتوكولي أو الخدمات الورقية، إذ من الملاحظات التي وجدتها إن الملحقيات الثقافية ضعيفة، ومحدودة التأثير، كما لاحظت عدم وجود رصد علمي لتجارب العراقيين في الخارج ولا توثيق لنجاحاتهم، فضلًا عن عدم بذل الجهود الكافية لربطهم بالوطن، سواء عبر برامج تدريب، أو مشاريع استثمارية، أو منصات تواصل فعّالة، وهنا تكمن النتيجة، والتي تتضمن شعور بالتجاهل والخذلان، وتنامي فجوة نفسية وعاطفية بين الشباب المغترب ودولته الأم.
رابعًا: كيف نُعيد بناء العلاقة؟
إذا أرادت الدولة العراقية استعادة ثقة أبنائها في الخارج، فلا بد من:
1. الاعتراف الرسمي بأن الشباب المغترب جزء فاعل من الدولة وليس مجرد ملف خارجي.
2. تأسيس هيئة وطنية مستقلة تُعنى بشؤون المغتربين والكفاءات العراقية.
3. إعادة هيكلة عمل السفارات لتكون مراكز ثقافية فعالة، لا مكاتب معزولة.
4. إطلاق منصات إلكترونية تفاعلية تربط الشباب العراقي المغترب بمشاريع داخل البلد.
5. ضَم المغتربين في المؤتمرات الوطنية والخطط التنموية.
العراق بحاجة لهؤلاء الشباب تمامًا كما هم بحاجة إلى من يسمعهم، ويمنحهم شرف المشاركة في رسم مستقبل وطنهم، لا تركهم كأرقام في لوائح الهجرة.
خامسًا: هل هم سفراء أم منفيّون؟
الحقيقة المؤلمة أن كثيرًا من الشباب العراقي في المهجر يعيشون دور السفير دون اعتراف رسمي، ويعانون ألم المنفى دون أن يغادروا كرهًا، هم ليسوا منفيّين بحكم القانون، ولكن منفيّون في الوجدان والسياسات، وفي مقابل كل شاب ناجح يرفع اسم العراق في الخارج، هناك سؤال لا بد أن يُطرح على المسؤولين: متى نكفّ عن خسارة شبابنا؟ ومتى نفهم أن بناء الدولة لا يكون فقط داخل الحدود، بل في كل من يحمل اسم العراق خارجه؟
وفي الختام إن التعامل مع الشباب العراقي في المهجر بوصفهم ثروة وطنية لا ملفًا مهملًا، يتطلب إرادة سياسية، ومراجعة شاملة في أساليب الاتصال، وآليات العلاقات العامة الرسمية، ومنظورًا جديدًا يعتبر «المواطنة» قيمة تتجاوز الجغرافيا، وعليه فمن الضروري الانتقال من مرحلة الإنكار إلى مرحلة الفعل، من مرحلة الخطاب العاطفي إلى السياسات الذكية، فمن لا يحتضن أبناءه اليوم، سيجدهم في رعاية أوطان بديلة.