الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الصراع بين الفرض والقرض (3)

بواسطة azzaman

الصراع بين الفرض والقرض (3)

الهويات الموروثة والهويات المحدوثة

منقذ داغر

 

«ثقافة الأمة تكمن في قلوب وأرواح شعبها» المهاتما غاندي

لماذا يرغب الأفراد بالموت من أجل وطنهم،أو دينهم أو طائفتهم؟ لماذا يرسل الآباء أبنائهم للحروب فخورين بذلك مع علمهم أنهم قد يموتوا؟ هذه الأسئلة وما شابهها شغلت علماء الاجتماع مثل دوركايم Durkheim وماكس فيبر Veber وقد كان الشعور بالهوية الاجتماعية هو أحد التفسيرات المهمة لتلك التساؤلات. فالشعور القوي بالانتماء لجماعة ما يجعل التضحية من أجلها وارداً ومبرراً. وإذا كانت معظم الهويات الاجتماعية (الطائفية والدينية والقبلية...الخ) موروثة، فأن الهوية الوطنية هي من صنف الهويات المكتسبة والمختارة على وفق الإرادة الحرة للفرد. إنها هوية محدوثة لا موروثة. لكن كلا النوعَين مهمَين للوجود والتماسك الاجتماعي ولإضفاء معنى مميز للحياة الاجتماعية من جهة والإنتماء للوطن من جهة أخرى. ومثلما يلعب التفاعل بين عوامل الوراثة والبيئة دوراً حاسماً في السلوك الإنساني الفردي، فأن التفاعل بين الشعور بالهوية الاجتماعية (الموروثة) والهوية الوطنية المكتسبة يلعب دوراً حاسماً ليس في السلوكَين الاجتماعي والسياسي فحسب، بل في تحديد مدى سلبية أو إيجابية كل من الهويتَين على الأخرى. أن إيجابية وسلبية هذا التفاعل بين الهويتَين ومدى تأثيره في التطور السياسي لأي بلد يخضع لعوامل موضوعية وشخصية كثيرة سأركز هنا على بعضها الذي يتعلق بوضع العراق والبلدان المشابهة.

تداول كثير من العراقيين سؤالاً عن مآلات الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 وسبب فشل ذلك الاحتلال مقارنةً بالإحتلال الأمريكي لألمانيا واليابان وحتى كوريا الجنوبية والذي نجم عنه تطور كبير على الصُعُد السياسية والاقتصادية وربما الاجتماعية أيضاً. أحد التفسيرات الممكنة هي مدى وجود وتجذر الهوية الوطنية في تلك البلدان مقارنةً بوجودها في العراق.

نسيج سياسي

فمنذ 2003 وحتى قبلها ظل صراع الهويات الاجتماعية (الدينية والطائفية والقومية) مع الهوية العراقية الجامعة مستعراً ضمن النسيج السياسي والإجتماعي العراقي على الرغم من كل محاولات التغطية عليه من خلال فرض هوية وطنية فوقية وهو ما سأناقشه في مقال آخر. مقابل ذل لم يعاني اليابانيون ولا الكوريون أو الألمان من هذا الصراع الهوياتي إذ تمكن التطور السياسي والإجتماعي في تلك الدول من خلق وحدة وطنية تجسّر وتربط كل ما سواها من هويات فرعية. مثلت رسالة الملك فيصل الأول والتي يتحدث فيها عن المصاعب التي شخصها في جسد المجتمع العراقي من « تكتلات بشرية خيالية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، خالية من أي فكرة وطنية، لا تجمع بينهم جامعة...» أنموذجاً قياسياً لفشل التفاعل بين الهويات الاجتماعية الموروثة للعراقيين، وهويتهم المراد تصنيعها (الهوية الوطنية). وبعد حوالي مئة سنة على تلك الرسالة ما يزال ذات التشخيص للتقاطع الحاصل بين الهوية الوطنية والهويات الاجتماعية شاخصاً لليوم الى الحد الذي يصرح فيه البعض علناً وعبر وسائل الأعلام، بل والمنابر الدينية أن العراق بلداً مصطنعاً لا يملك هوية وطنية جامعة. واضح إذاً أن نتائج التفاعل بين الهويات الاجتماعية والهوية الوطنية في العراق أثرت سلباً في التطور السياسي للعراق. هذا لا يعني أن المشكلة تكمن في الهويات الاجتماعية، ففي كثير من بلدان العالم مثّل التنوع الهوياتي (الاجتماعي)عنصر تنوع وقوة للمجتمع حتى بتنا نرى رئيساً للولايات المتحدة من أصول أفريقية، ورئيساً لبلدية لندن من أصول مسلمة...الخ. لم تجعل الهويات الاجتماعية لهؤلاء القادة بقية افراد المجتمع يشككون في ولائهم وجدارتهم لأنهم ينظرون لهم كمواطنين تجمعهم هوية وطنية واحدة ولا يعدّونهم مهاجرين لديهم هويات دينية أو عرقية تختلف عنهم. أن المشكلة لا تكمن في الهويات، بل في كيفية التعامل معها وتطويعها لصالح الوطن. ومثلما أشرت في المقال الأول من هذه السلسلة فأن الهويات الاجتماعية تحمل في طياتها بعدَي التميّز عن الآخر-من أصحاب الهويات الأخرى- وعنصر التشارك مع الآخرين -داخل الجماعة أو المجتمع أو الوطن- في خصائص معينة.

إضعاف المشتركات

فإذا تمكن شعب ما او جماعة ما من تجسير المختلف وتوكيد المشترك تحولت الهوية الى عنصر قوة. أما إذا تم إضعاف المشتركات أو إهمالها، والتوكيد على التمايز فقط فستتحول الهويات-أياً كان مسماها- الى عنصر تفريق وتشتيت. وطبيعي ان تضعف المشتركات كلما زاد حجم الجماعات وتنوعت،في حين أنها تقوى وتزداد عندما تكون الجماعة صغيرة. فالمشتركات ضمن العائلة أقوى وأكثر من العشيرة،وهكذا دواليك. كما ان المشتركات تزداد وبالتالي تتعزز الهوية عندما تزداد الطقوس المشتركة. لذلك تكون الهويات الدينية والطائفية قوية أزاء الهوية الوطنية عندما لا تستطيع تلك المجتمعات ان تتفق وتطور رموز وطقوس وطنية جامعة. وفي الوقت الذي نجحت فيه الطوائف والأثنيات في العراق في تطوير منظومة شاملة من الطقوس والرموز الاجتماعية والدينية المميِّزة لها فقد فشلنا بعد اكثر من 21 عاماً في الإتفاق على طقوس ورموز مشتركة وجامعة.فمثلاً فشلنا في الأتفاق على علمٍ موحد أو نشيد وطني مشترك أو رموز عراقية،لا طائفية ولا قومية. لذلك باتت الهويات الاجتماعية تمارس دور التمايز والتباين في ذات الوقت الذي فشلت فيه الهوية الوطنية في لعب دور التوحيد والتجميع والاشتراك. لقد باتت الإجابة عن تساؤل: ماذا يعني لي أن أكون مسلم أو شيعي أو سني أو كوردي أو تركماني أو صابئي أو مسيحي...الخ أسهل بكثير من الإجابة عن تساؤل: ماذا يعني كوني عراقي؟ * يقصد بالقرض هنا النظم على وفق قواعد معينة.يقال قرض الشعر أي نظمه.

 

لقد باتت الإجابة عن تساؤل: ماذا يعني لي أن أكون مسلم أو شيعي أو سني أو كوردي أو ...الخ أسهل بكثير من الإجابة عن تساؤل: ماذا يعني كوني عراقي


مشاهدات 111
الكاتب منقذ داغر
أضيف 2025/07/28 - 3:54 PM
آخر تحديث 2025/07/29 - 4:35 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 547 الشهر 19763 الكلي 11173375
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير