الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المعادن النادرة سترسم خرائط الصراع بين الشرق والغرب

بواسطة azzaman

المعادن النادرة سترسم خرائط الصراع بين الشرق والغرب

حسين الفلوجي

 

في لحظة فارقة تبدلت فيها اغلب قواعد التوازن الدولي، حيث خرجت من باطن الأرض معادن خفية قسما منها لا يرى بالعين المجردة لتتربع تلك المعادن على رأس أولويات السياسة العالمية.

الاحداث المتسارعة وخلال العشر سنوات الماضية تؤكد، ان الصراعات الكبرى اصبحت لا تُخاض على آبار النفط وحدها، بل باتت تُبحث عن رسم خرائط نفوذ جديدة.

انها، المعادن النادرة، والتي من الواضح انها ستتحكم بمفاصل التكنولوجيا والاقتصاد والدفاع، والتي باتت اليوم في صلب الصراع الجيوسياسي بين الشرق والغرب.

من هيمنة النفط إلى سباق المعادن

طوال القرن العشرين، شكّلت الطاقة الأحفورية – وتحديدًا النفط – ركيزة صلبة لأي مشروع قوة. لذلك، فمن امتلك النفط امتلك ورقة ضغط سياسية، والقدرة على تحريك الاحداث. أما اليوم، فقد تحوّلت بوصلة الصراع العالمي من الطاقة الأحفورية إلى المواد الأولية عالية التقنية، وعلى رأسها المعادن النادرة.

هذا التحول لا يُعبّر فقط عن انتقال اقتصادي نحو التكنولوجيا الخضراء والمركبات الكهربائية والطاقة المتجددة، بل يُجسد أيضًا إعادة ترتيب لمعادلات السيطرة الاستراتيجية، حيث باتت الوفرة الجيولوجية تُعادِل في قيمتها القوة العسكرية.

الصين: القوة الصامتة التي سبقت الجميع

منذ نهاية القرن الماضي، أدركت بكين أن من يملك القدرة على التحكم في سلاسل توريد المعادن النادرة، سيمتلك مفاتيح الصناعات المستقبلية.

لذلك تعتبر الصين اول من استثمر في المعادن النادرة ومعالجتها، حيث باتت تُنتج اليوم أكثر من 60 بالمئة من معادن الأرض النادرة، وتُعالج أكثر من 90 بالمئة  منها. بل وامتدت استثماراتها إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، لتُحكم قبضتها على المناجم كما تُحكم الدول الكبرى قبضتها على المضائق والموانئ.

وما كان بالأمس خيارًا اقتصاديًا، أصبح اليوم أداة ضغط جيوسياسي. فعندما تصاعد التوتر التجاري مع الولايات المتحدة واليابان، لوّحت الصين—بهدوء بالغ—بورقة تقليص صادرات المعادن النادرة، ما أشعل أجراس الإنذار في عواصم الغرب.

الغرب يستفيق... متأخرًا

في مواجهة هذا الاحتكار الصيني، شرعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأستراليا ودول اخرى في إطلاق مبادرات لإعادة التوازن في السوق. واشنطن صنّفت المعادن النادرة كـ «مورد حيوي للأمن القومي»، وأقرت برامج تحفيزية للتنقيب والمعالجة داخل أراضيها.

أما الاتحاد الأوروبي فأقرّ قانون «المواد الخام الحرجة» لتقليل الاعتماد على الخارج بنسبة 65 بالمئة بحلول 2030. لكن ما زالت الفجوة كبيرة، والزمن لا يعمل لصالح الغرب في سباق توريد المواد عالية القيمة.

فالأمر اصبح لا يتعلق فقط بالإنتاج، بل بسلاسل القيمة الكاملة: من التنقيب إلى التكرير، ومن المعالجة إلى الصناعة، ومن التحكم الجيولوجي إلى النفوذ الجيوسياسي.

ليس الشرق والغرب وحدهما طرفي هذه المعادلة، بل هناك «جنوب استراتيجي» جديد ينشأ على هوامش السباق.

دول مثل الكونغو، مالي، ميانمار، كازاخستان، وحتى دول أميركا اللاتينية، تجد نفسها اليوم تحت أنظار القوى الكبرى. فهي لا تملك فقط الموارد، بل أيضًا الجغرافيا القابلة للنفاذ والسيطرة.

وهنا تبدأ لعبة أكثر تعقيدًا: صفقات استثمارية، قروض ميسرة، تحالفات تحت غطاء التنمية، وشراكات أمنية ظاهرها التعاون وباطنها التمركز. في هذا المشهد، أصبحت المعادن النادرة بوابة تدخل القوى العظمى إلى تخوم جغرافيا الجنوب، وما حدث مع اوكرانيا افضل نموذج للتدخل الحديث.

النفط الجديد

المقارنة بين النفط والمعادن النادرة ليست مجازًا بل واقعًا. لكن المفارقة أن الأخيرة أكثر خطورة وأقل شفافية.

في حين أن أسعار النفط تُحدد في أسواق معلنة، فإن تجارة المعادن النادرة تتم خلف الستار، وغالبًا ما تُحكم بقواعد احتكار، واتفاقات ثنائية، وشبكات نفوذ جيوسياسي تمتد من مناجم ميانمار إلى مصانع كاليفورنيا. وهنا، تبرز معادلة جيوستراتيجية جديدة: من يملك المواد النادرة يملك القرار التقني، ومن يملك القرار التقني يفرض شروطه على الاقتصاد والسياسة معًا.

في هذا التحول الجذري، تقف دول مثل العراق ومجمل العالم العربي على مفترق طرق.

استكشافات وطني

فإما أن تستثمر في مسح مواردها، وتؤسس لسياسات استكشاف وطنية واستراتيجية تصنيع تكنولوجي رصينة، أو تُترك عرضة للابتزاز أو التجاهل، ويُعاد تصنيفها كدول ما بعد النفط، لا دول ما بعد الهيمنة.

فاللحظة الحالية لا تقبل الفراغ. من لا يملك أوراقًا في هذا الصراع، سيكون إما تابعًا في شبكات التوريد، أو هدفًا لسياسات الهيمنة تحت عناوين الأمن والتكنولوجيا والاستدامة.

ختامًا: خرائط جديدة تُرسم… بلون النُدرة

العالم لا يتغير فقط، بل يُعاد رسمه بخطوط دقيقة وحادة. الخرائط لا تُرسم بالدماء والصراعات هذه المرة، بل بالمعادن التي لا تُرى بالعين المجردة لكنها ستُغير موازين العالم اجمع.لذلك فإن من سيُمسك بملف المعادن النادرة اليوم، ستكون له القدرة على تعريف مفهوم القوة، السيادة، واستقلالية القرار.

وما بين شرق بقـــــــيادة الصين، يقبض على كل مراحل وادوات الإنتاج، وغرب يُصارع من اجل اللحاق، وجنوب يُـــــــــــستدرج إلى خرائط النفوذ، تـــــــــــــقف البشرية اليوم على عتبة جديدة من صراع طويل ومعقد... عنوانه: المعادن النادرة.


مشاهدات 74
الكاتب حسين الفلوجي
أضيف 2025/07/26 - 3:11 PM
آخر تحديث 2025/07/27 - 6:09 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 213 الشهر 17855 الكلي 11171467
الوقت الآن
الأحد 2025/7/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير